السبت، أيلول ٣٠، ٢٠٠٦

كتاب المقاومة الوطنية العراقية 1

كتاب المقاومة الوطنية العراقية
معركة الحسم ضد الامركة
عن شبكة البصرة

بقلم : حسن خليل غريب

الإهـــداء
إلى أبطال المقاومة الوطنية العراقية

الذين ما إن ابتهج الغزاة المحتلين بإسقاط تمثال القائد العربي صدام حسين في التاسع من نيسان من العام 2003م، حتى كانت سواعدهم تمتشق البنادق في العاشر منه* لتصلي الغزاة ناراً لاهبة
والذين توهَّم الغزاة، وعملاؤهم، أنهم انتهوا بزوال السلطة فإذا بهم يبرهنون، بجدارة، على أنهم أبناء للثورة
و العراقيين الذين اختاروا طريق الجبهة الوطنية لمقاومة الاحتلال
و الذين توافدوا للدفاع عن أمتهم العربية على أرض العراق، حيث مواقع النضال والجهاد، فأعطوا للمعركة عمقها القومي والإنساني
*22 نيسان 2003م: لندن : القد س العربي : البيان الرقم (1) ل»قيادة المقاومة والتحرير« العراقية : »منذ يوم 10/4/2003 ورجال ونساء المقاومة والتحرير يخوضون عمليات قتالية ما بين الهجوم الخاطف والعمليات الاستشهادية لتحرير العراق العظيم من قوات هولاكو العصر المجرم بوش والمجرم بلير والصهاينة الخاسئين
كتاب المقاومة الوطنية العراقية
الحلقة الاولى


مقدمة
سألني أحد الأصدقاء، بعد أن عرف بأنني أُعِدُّ دراسة عن المقاومة الوطنية العراقية، قائلاً: أليس من المبكر أن تُعِدَّ دراسة عن ظاهرة لا تزال في طور التكوين؟
أثارت الملاحظة لديَّ مخاوف من الوقوع في مرحلية العمل الصحفي ويومياته الإخبارية. فالخبر يتسابق مع التحليل وإذا سبقه يفقد التحليل أهميته. فإذا لم يكن التحليل سابقاً الخبر، ويتميز باستشرافه المستقبل، فلن تكون الدراسة بذات جدوى.
كنت واثقاً من أن المقاومة العراقية ليست ظاهرة تكوَّنت في ساعة الصدمة التي ولَّدها الاحتلال الأميركي – البريطاني لأرض العراق، بل سبقته بأوقات طويلة. فالمقاومة في العراق نتاج استراتيجي، وليس نتاجاً مرحلياً. وتستند استراتيجيتها إلى أنها تمثل أحد الأسس الفكرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وترسَّخت في تربية البعثيين النضالية، على امتداد عشرات السنين أسهموا فيها بدور فاعل في تاريخ المقاومة الشعبية لكل مظاهر الاستعمار: في فلسطين، ولبنان، والأردن؛ وهذا هو –الآن- يمارسها –بكفاءة لافتة- في العراق.
وتستند الاستراتيجية النضالية للحزب إلى تُراث عربي تاريخي عريق، تراكم عبر العصور؛ كما تستند إلى تجربة عراقية خاصة، وكان من أهمها ثورة العشرين التي واجه فيها الشعب العراقي الاحتلال البريطاني.
وردَّاً على المتسائلين، أو المشككين، حول أسباب ظهور المقاومة العراقية تحت صيغة أنها منظمة أو هي نتيجة ردود فعل فردية، جئنا –من خلال دراستنا هذه- لنكشف أن المقاومة العراقية تقوم على أساس فكر استراتيجي وليس ردة فعل تكتيكية، كما أن الإعداد لها سبق العدوان الأميركي بسنوات طويلة.
مستنداً إلى العمق الاستراتيجي للفكر المقاوم عند حزب البعث العربي الاشتراكي ، تخلَّصت من مرحلية الخبر الصحفي ويوميته. ووظَّفته للبرهان على صحة تلك الاستراتيجية، وبذلك ضمنت للدراسة عن المقاومة العراقية ثباتاً استراتيجياً في الرؤية والتحليل، وحتى الخبر أسهم في إضفاء مصداقية وثبات على نتائج الدراسة، وبذلك ابتعدت الدراسة عن أن تكون مجرد وظيفة خبرية.
بعد أن ابتدأت عمليات العدوان العسكري على العراق، ومن منظار المتابعة الخبرية والخطابية، وترقباً لتحقيق أمنيات طالما غلَّبها المتابعون لمجريات حرب المواقع العسكرية، حدث ما حسبه كل المراقبين أنه من المفاجآت التي لم يكونوا يتوقعونها، وتمثَّلت المفاجأة بدخول جنود الاحتلال الأميركي إلى بغداد، في الوقت الذي كانوا ينتظرون فيه صموداً أكثر وقتالاً أكثر يلحق بجيوش الغزاة الخسائر الفادحة. وكان البديل من كل تلك التوقعات أن الاحتلال حصل في وقت سريع، قابله اختفاء سريع لكل مظاهر القوات العسكرية العراقية النظامية. وهذا ما أثار علامات التعجب والاستهجان، وعلامات الخيبة، عند الصادقين في محبة أمتهم العربية.
لكن بعد تواتر الأخبار عن عمليات المقاومة العراقية، هدأ روع الجماهير العربية، وتبدَّلت علامات السخط إلى مظاهر من الإعجاب والتشجيع لتلك الظاهرة.
وما كان ملفتاً للنظر هو تحول مظاهر الخيبة والتنديد، إلى مظاهر الإعجاب والتشجيع، لكن من دون أن يقوم أحد بتفسير لذلك الانتقال المفاجئ. أما نحن فكنا نملك تفسيراً لمثل تلك المتغيرات التي أحاطت بظاهرة المقاومة العراقية. ومن أجل توضيح تلك المساحات من الرؤية الغائبة عن أنظار الكثيرين ووعيهم، جاءت هذه الدراسة كمحاولة هدفها ملء تلك المساحات. وتمثَّلت مهمة البحث بتسليط الأضواء على ما كان خافياً، أو ما هو غائب -بالفعل- عن مدى الرؤية عند معظم المراقبين، الذين سخطوا ثم أُعجبوا.
إن المساحة الغائبة عن رؤية الصراع الأميركي - العراقي، هي من مهماتنا التي سنعمل على الكشف عنها. ويقوم أسلوب الكشف، مستفيداً من الخبر الصحفي والخطاب التعبوي، على مراجعة فكرية استراتيجية يستند إليها النظام السياسي الذي كان قائماً في العراق قبل الاحتلال. وهنا نرى أن مظاهر التصادم العسكري ووقائعه، الذي دار على الساحة العراقية، بشكل حرب المواقع النظامية، غيَّبت كل أشكال الصراع الأخرى التي تدعو إليها استراتيجية حزب البعث العربي الاشتراكي.
وجدنا أن تلك الأشكال هي ذات مضامين فكرية استراتيجية نظرية، ومظاهر نضالية عملية تمظهرت في تاريخ الحزب منذ الإعلان عن تأسيسه في العام 1947م.
بعد أن قلبت مظاهر المقاومة الشعبية في العراق موازين المزاج الشعبي، والثقافي والسياسي، أيضاً، راحت التحليلات، بالإضافة إلى المتابعات الخبرية تتساءل: هل المقاومة العراقية ردة فعل ضد فشل أساليب قوات الاحتلال في ضبط الفلتان الأمني، وانتشار السرقة والنهب، كما غياب الخدمات العامة من مياه وكهرباء وهاتف، ونتيجة اتخاذ قرارات عشوائية لإدارة الاحتلال المدنية بحل أجهزة الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والقضائية، أي كل ما له علاقة بحياة الناس ولقمة عيشهم؟ أم أنها تأتي في سياق آلية مقاومة استراتيجية للمشروع الامبريالي الصهيوني؟
تكاثرت التحليلات وتضاربت، وكثرت التنبوءات حول تحديد زمن تنتهي فيه تلك الظاهرة، فربط البعض استمرارها بإنهاء مرحلة الفوضى، وإعادة الخدمات العامة، أو بتأمين لقمة العيش لملايين العائلات التي فقدت مورد رزقها.
وربطها البعض الآخر بأنها ردَّة فعل يائسة يقوم بها المستفيدون من النظام السياسي السابق، يمكن القضاء عليها، من خلال اعتقال رئيس جمهورية العراق، صدام حسين، مروراً بتصفية القيادة السابقة، انتهاءً بالقضاء على أي تأثير لحزب البعث العربي الاشتراكي في الحياة العامة العراقية.
حتى القوميون الصادقون، لم يحسبوا -في غمرة توقعاتهم وتحليلاتهم- أن هناك عوامل مبدئية استراتيجية أسهمت في صياغة مبكِّرة لظهور المقاومة العراقية. فربط البعض ولادتها ومصيرها بمظاهر محض مادية، فظهر وكأنهم يصورون بأن قتال العراقيين لقوات الاحتلال لم يكن إلاَّ من أجل تأمين بعض الخدمات، من ماء وكهرباء وهاتف وعدة ليترات من البنزين. وهنا نتساءل: إذا صدق المحتلون بتأمين كل تلك الخدمات، فهل تتوقَّف المقاومة ضدهم؟ وهل تحول الوطن إلى نقطة من الماء ومصباحاً من الكهرباء، وعدة ليترات من البنزين؟ أوَ ليس للكرامة الوطنية موقع عند العراقيين؟
وهنا نشير إلى أن الذين ربطوا انطلاقة المقاومة العراقية بالعوامل المادية، خاصة أولئك الحاقدين والمتورطين بمخططات الاستعمار الجديد، تناسوا أن من أهم دوافع الذين يقاتلون الاحتلال هو الدفاع عن كرامتهم الوطنية وقرارهم المستقل في اختيار النظام السياسي الذي يريدون، وحماية ثروتهم الوطنية ضد أساليب النهب الأميركي المنظم.
فدفاعاً عن المفاهيم الوطنية والقومية، والشرف الوطني، التي يتمسك بها العراقيون، جاء البحث لكي يكشف الزيف عن الادعاءات التي يعمل الحاقدون على نظام البعث في العراق، ومنعهم من أن يوغلوا تضليلاً على عقول الجماهير، ولكي يكشف نواياهم الخبيثة وحقدهم الدفين التي تدفعهم لتغطية جريمة احتلال العراق وتبرير شرعيته.
لعلَّنا منهجياً نكون قد تجاوزنا المآزق التي يضعنا أمامها الخبر الصحفي، ولعل نتائج البحث تنجح في الارتفاع بوعي الرأي العام العربي والدولي، في النظر إلى ما جرى في العراق، إلى المستوى الفكري والاستراتيجي النضالي الذي يشكل البوصلة النضالية لحزب البعث في مواجهة الاستعمار، بما يلقي أضواء كاشفة يتضح معها ما كان يعده البعض مفاجآت، تدعو إلى السخط حيناً وإلى الرضى والاعجاب أحياناً أخرى.
إن نتائج نضال المقاومة العراقية، وإن لم تنته فصولاً حتى الآن، فإن معالمها أصبحت واضحة للعيان، فهي قد فرضت نفسها عاملاً أساسياً في منع القوات الغازية من الاستقرار، وفي معادلة رسم مستقبل العراق بعد إنهاء الاحتلال. وإن الحكم على تأثيرها لم يعد غامضاً أو خاضعاً لـتأثيرات غير محسوبة، لأنها رسمت الخط الاستراتيجي الذي سوف يفرز نتائج واضحة وثابتة والتي لن يغيِّر تسارع الأحداث مما أصبح متوقعاً منها، أما تلك النتائج فهي إزالة الاحتلال وعملائه، وإنهاء كل المظاهر التي أفرزها. فلا يمكن –إذاً- أن يتجاوز تسارع الأحداث تلك النتائج التي توقعت هذه الدراسة حصولها. وهذا ما يشكل حصانة لها ضد أن تكون مجرد متابعة مرحلية، وهذا ما يعطيها أهميتها في الرؤية الاستراتيجية لظاهرة اعتبر الكثيرون أنها مؤقتة.
أما أهداف الدراسة ووسائلها فكانت التالية:
لم تكن من مهمتنا في هذه الدراسة أن نقوم بمقارنة توثيقية رقمية لموازين القوى العسكرية بين أميركا والعراق، ولكنها اهتمت بتوضيح رؤيتنا حول تحديد العوامل التي تبيِّن إمكانيات تحقيق نصر أو إلحاق هزيمة بين الطرفين المتصارعين.
في موازين القوى العسكرية، على مستوى العالم، هناك اعتراف بتفوق القوة العسكرية الأميركية، بمقارنتها مع الدول الكبرى، على شتى الصُعُد. ونرى أنه من السذاجة أن يسمح أحد لنفسه بالدخول في مجال المقارنة بين القوتين العراقية والأميركية، فهناك مسافة كبرى بينهما، ولهذا لن تستطيع القوة العراقية النظامية أن تصمد كثيراً في حرب المواقع أمام القوة الأميركية. ففي ظل مثل تلك المعادلة تنتصر القوة الأميركية، بدون شك. وفي المقابل ينهزم العراق بالتأكيد. لكن في رفض الطرف العراقي الرضوخ للإملاءات الأميركية، وهو الأضعف في الصراع العسكري، ما يدفعنا لطرح الأسئلة التالية:
إذا كانت نتائج الصراع العسكري النظامي واضحةً على ما قمنا بتحديدها، فلماذا أصرُّت القيادة العراقية على خوض الصراع مع قوة عسكرية تعرف نتائجه مسبقاً؟ أوَ ليس الإصرار على ذلك إلاَّ حالة واضحة من العبثية؟ ([1]).
أوَ ليس الخطاب السياسي أو التعبوي إلاَّ رومانسياً؟ ذلك الخطاب، الذي يحسب فيه أصحابه أنهم يمتلكون مقدرة على إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر على الرغم من أن ميزان القوى يميل -بشكل لا شك فيه- لصالح الطرف الآخر؟([2]).
استناداً إلى مضمون إيديولوجيتهم الإعلامية والسياسية يتهم»الواقعيون« كل من يُصرُّ على مواجهة القوى العسكرية الكبرى بالرومانسية والسوريالية، ويدعونهم إلى أن لا يقودوا شعوبهم إلى حروب مع تلك القوى، لأن نتائج الإصرار تجر إلى كوارث مادية وإنسانية على شعوبهم.
وبين من يُصرون على قتال الخصم، بشعارات رومانسية ومن يصرون على الواقعية، مسافة حدَّدها -من يحلو للبعض أن يطلقوا عليهم صفة الرومانسيين- بعقلانية تستند إلى الدفاع عن القيم الإنسانية، بينما لم يستطع الواقعيون التقاطها. تلك المسافة تملؤها قيمة الدفاع عن السيادة الوطنية بملحقاتها بالحق في الحرية والمحافظة على الكرامة الإنسانية وحرية التصرف بالثروات الوطنية، وحرية اختيار الأنظمة السياسية…
ولأننا مقتنعون بأن الواقعية شيء عملي ومناسب إذا كانت موازين القوى العسكرية هي التي تحدد نتائج النصر والهزيمة، ولكننا لا نحسب أن نتائج استخدام القوة العسكرية هي التي تحدد أسس العدالة بين شتى مستويات البشر، أفراداً وجماعات ودولاً -ولن تحققها- لأن مقولة الحق للأقوى تتنافى مع قيم الحرية والعدالة والمساواة. وشتى القيم الإنسانية الأخرى، من الحق بالمحافظة على السيادة الوطنية، وحرية التصرف بالثروات الوطنية، والحق في اختيار النظام السياسي.
ولأن استخدام القوة هو من الوسائل / المتغيرات، بينما القيم الإنسانية التي تحكم علاقات الإنسان بالإنسان هي من الثوابت، نكون بغاية من التعسف إذا ما قمنا بتثبيت المتغير المؤقت (الخوف من مواجهة عدوان القوى الكبرى)، وبتغيير الثابت وتحريكه (التنازل عن الحقوق الوطنية لقوى العدوان).
ولأن الداعين إلى الواقعية يغيِّبون العوامل القيمية عن التقييم، قمنا بدراستنا هذه بالدفاع عن رؤيتنا وقناعتنا من خلال دراسة واقعية ميدانية معاصرة، وهي موضوع المقاومة الشعبية في العراق ضد الاحتلال الأميركي – البريطاني.
أما لماذا أعطينا للمقاومـة العراقيـة صفة الوطنيـة؟
نطرح هذه الإشكالية في مواجهة الذين يستغربون أن تُعطى صفة الوطنية لمقاومة يقودها حزب يستند في إيديولوجيته إلى عمق قومي عربي. وهنا نرى أنه من بديهيات الأمور، أن يقود العراقيون –في هذه المرحلة- العمل المقاوم ضد قوات الاحتلال التي قامت باغتصاب أرضهم، وتعمل على ترتيب البيت العراقي –سياسياً واقتصادياً- بما يسمح لها بسرقة ثرواتهم الوطنية.
لذا تستند وطنية المقاومة العراقية إلى أن مقاومة الاحتلال هي أولاً مهمة أساسية من مهمات العراقيين. فإذا ما أحسنوا تنظيمها والقيام بموجباتها يأتي دور الآخرين، من تيارات وقوى وتجمعات شعبية قومية عربية، بالمساندة والمساعدة والمشاركة. وإذا ما أحسنت القوى القومية القيام بدورها القومي، في إسناد المقاومة العراقية –كفصيل من فصائل الثورة العربية- يأتي دور الإسناد الأممي الإنساني.
فعلى أسس وطنية المقاومة العراقية وقوميتها، إذاً، تتلقى إسناداً عالمياً وإنسانياً. لأنه من غير المنطقي أن يكون الشارع القومي العربي أكثر حيوية من الشارع الوطني العراقي، وأن يكون الشارع العالمي أكثر حيوية من الشارع القومي العربي.
استناداً إليه، نرى أن العمل المقاوم العراقي –على قاعدة وطنيته- يشكل المدخل الرئيس لولوج البوابة القومية، وبالتالي العالمية.
إن صفة الوطنية التي نطلقها على المقاومة العراقية مدخل أساسي نستند إليه في تعميم فكر المقاومة القومية وثقافتها؛ وهذا هو واقع الحال التي كانت،ولا تزال، عليه –بأشكال مختلفة- المقاومتان الوطنيتان الفلسطينية واللبنانية، وهما التجربتان السابقتان، لكي نستعين بنتائجهما، ونقوم باستنتاجات مفيدة من خلال دراستهما كتجربتين وطنيتين اتَّخذتا عمقهما القومي في مقاومة الاحتلال الصهيوني.
من أولى الاستنتاجات التي أفادتنا بها المقاومتان الوطنيتان، الفلسطينية واللبنانية، أنهما استندتا –أساساً- إلى الجهد المقاوم للشعبين الفلسطيني واللبناني، وبثقل من فعلهما الوطني فتحتا البوابة القومية في الإسناد والدعم والمشاركة.
أما ثاني تلك الاستنتاجات، فكان حرصهما –على الرغم من بعض الالتواءات التفصيلية- على ممارسة الفعل المقاوم على قاعدة الإجماع الوطني، وبذل الجهد للمحافظة عليه كإطار طارد لكل أنواع الأغراض الفئوية.
ولعلَّي أكون قد وفيَّت –من خلال هذه الدراسة- إلى أبطال المقاومة العراقية حقاً لهم، وهي كلمة صادقة تُقال في مقدماتها التاريخية والفكرية، وواقعها الراهن المشرِّف، ونتائجها المستقبلية التي تبشِّر بالخير على العراق والأمة العربية والعالم أجمع،
وعادة ما تكون كلمة الحق فقط أضعف الإيمان، وهذا ما يحدو بنا إلى أن نتطلَّع إلى المشاركة والدعم والاسناد.

حسن خليل غريب
لبــنان في أيلول / سبتمبر 2003م

([1]) يحلو للبعض أن يطلقوا عليها المصطلح الأجنبي: السوريالية.
([2]) يحلو للبعض أن يطلقوا على مثل ذلك الخطاب بالمصطلح الأجنبي: الرومانسية., ويحلو للبعض الآخر –وهو عربي اللسان- أن يطلق عليه مصطلح سياسي عربي: أسلوب أحمد سعيد.
الاحد 13 ربيع الاول 1425 / 2 آيار 2004

كتاب المقاومة الوطنية العراقية 2

بقلم : حسن خليل غريب

الفصل الأول
مقدمات فكرية حول مفاهيم النصر والهزيمة

تمهيــد
في كل صراع طرفان، ولكل طرف أهداف يحسب أنها مشروعة، فيقوم بالهجوم لتحصيلها من سالبها، أو بالدفاع لمنع سلبها من قوة أخرى. ويتم الصراع، عادة، بين الطرفين بوسائل عديدة، منها الصراع الإيديولوجي والفكري والسياسي، ومن أهمها التصادم العسكري الذي يعد له الطرفان كل الإمكانيات المادية، وتشمل الرجال والآلة والمال؛ وهي تشكِّل، عادة، عنصراً أساسياً في تحديد اتجاهات الصراع الميدانية.
ولأن الحرب العسكرية هي أحد وجوه الصراع بجوانبه السياسية والإيديولوجية والفكرية والثقافية، فإن نتائجها لن تكون حاسمة إلاَّ إذا أحدثت تغييراً في الاتجاهات السياسية والفكرية والإيديولوجية للخصم الخاسر عسكرياً. لذلك على الفريق الضعيف –في حسابات الموازين المادية- أن يضع قوَّة حقه عاملاً من عوامل تعديل موازين القوى في الصراع. وهذا ما لا يجعله يفرِّط به، ويحفِّزه إلى الدفاع عنه بشتى الوسائل والسبل.
وهنا، يمكننا أن نطرح التساؤل التالي: هل يمكن أن نطلق على كل من يتمسك بحقه، ويصر على الدفاع عنه، على الرغم من معرفته المسبقة بنتائج الصراع العسكري النظامي، بالرومانسية أو السوريالية؟
وهل يجوز –تحت حجة الواقعية- أن ندعو كل الضعفاء، بالموازين العسكرية النظامية، إلى التنازل عن حقوقهم الوطنية؟
إن مثل تلك الدعوات تخالف أدنى الحقوق في حماية القيم الإنسانية والدفاع عنها. ولهذا يكون السكوت عن مظالم يلحقها الآخر القوي، مادياً، بالضعيف الذي يتسلَّح بقوة حقه، منافٍ للقيم الإنسانية، فكيف بالأحرى يكون موقفنا ممن يتنازل عن حقه تحت ذريعة ضعف مقدرته العسكرية، وخوفاً من قوة الخصم؟
لا بُدَّ، في حساب موازين الصراعات بين الأقوياء والضعفاء، من أن نحسب أن قوة الحق هي من القيم الإنسانية التي لا يمكن إغفالها من موازين القوى، بل هي من الموازين القيمية الإنسانية التي تحصِّن صاحب الحق كي لا يتنازل عن حقه. وهي التي تلعب دوراً أساسياً في تحديد مفاهيم النصر والهزيمة.
ولأننا أمة تواجه سلسلة من الصراع المستمر مع قوى الاستعمار الخارجي،
ولأن تلك المفاهيم تلعب دوراً مهماً في التأثير على مضمون خطابنا السياسي وبنية مجتمعاتنا الثقافية والفكرية،
ولأن لتلك البنى تأثيراً في ترسيم حركة مجتمعاتنا النضالية، ولأن مفاهيم النصر والهزيمة، التي يستند إليها خطابنا السياسي أصبحت قاصرة عن تجديده بما يتناسب مع معارك الدفاع عن حقوقنا، وبما يتناسب مع تجارب الأمة النضالية،
بات من الواجب علينا أن نسهم في صياغة مفاهيم جديدة للنصر والهزيمة.
بداية، نرى أن من علامات النصر أن يرغم القوي خصمه على الاعتراف له بمشروعية أهدافه. فإذا أرغم خصمٌ خصمَه، على الاستسلام من دون الاعتراف له بمشروعية أهدافه- يبقى النصر مبتوراً. فكيف إذا كان الاستسلام لم يتم أصلاً؟
استناداً إلى ذلك، عندما يعجز الضعيف في الدفاع عن حقوقه، لغياب التكافؤ بموازين العوامل المادية، ولكنه يرفض التنازل عنها، ويصر على استعادتها بشتى وسائل الممانعة المتاحة، يعني أن النصر لم يكتمل للخصم المنتصر، والهزيمة العسكرية تبقى ناقصة الشروط بالنسبة للطرف المهزوم. أما البراهين على ذلك، فكثيرة، ومنها الأمثلة التالية:
ربحت الصهيونية، عسكرياً، على الشعب الفلسطيني –منذ بداية تأسيس كيانها على أرض فلسطين- وعملت جاهدة على انتزاع اعتراف الشعب الفلسطيني بمشروعية كيانها. لكن هذا الشعب، على الرغم من خسارته معاركه العسكرية التي تمظهرت في أكثر من منازلة أو معركة، لم يعترف للصهيونية بمشروعية أهدافها. ولما كانت قيم الوطنية والسيادة على الأرض والحق بالعيش المستقل هي من القيم التي تمثل حقوق الشعب الفلسطيني من جهة، ولما كان الاغتصاب هو الوسيلة التي استخدمتها الصهيونية من جهة أخرى؛ أعطت قوة الحق، التي يمتلكها الشعب الفلسطيني في مواجهة وسائل الاغتصاب، شحنة من الإيمان للنضال من أجل استعادة الحق المسلوب. فأضافت تلك الشحنة، إلى موازين القوى، عاملاً دفعه إلى رفض التنازل عن الحقوق والقيم، فانخرط بسلسلة من وسائل المقاومة الفكرية والسياسية والعسكرية ضد العدو الصهيوني. ولما لم يتوقَّف الصراع، حتى الآن، بل هو قائم ومتجدد –منذ أكثر من خمسين عاماً- نجد ما يدفعنا إلى القول بأنه لهذا السبب وحده، نحسب أن الصهيونية لم تسجل نصراً كاملاً، بل إن الشعب الفلسطيني لم ينهزم أيضاً.
وكمثال آخر، انتصرت الصهيونية، عسكرياً، في حرب العام 1967م، على الجبهة المصرية؛ واستثمرت نصرها في سبيل إرغام مصر على الاعتراف لها بحق اغتصاب الأرض العربية؛ لكن مصر امتنعت عن الاستجابة للإرغام الصهيوني، ومارست حرب الاستنزاف المشهورة. فمصر تكون بذلك قد انهزمت بالمفهوم العسكري النظامي، لكنها بامتناعها عن التنازل عن الحقوق، خاصة بعد أن ابتدأت حرب الاستنزاف ضد العدو على قناة السويس، كوجه من وجوه المقاومة، تكون قد جرَّدت النصر الصهيوني العسكري من اكتمال شروط تحققه، وتكون –بما أقدمت عليه- قد جرَّدت الهزيمة المصرية من بعض شروط اكتمالها.
أما في العام 1973م، فقد حققت القوات المصرية نصراً عسكرياً –ولو كان غير كامل- على القوات الصهيونية، وكان عليها لكي تسجِّل نصراً كاملاً أن تمنع الصهيونية من تثبيت ما سرقته من حقوق عربية. لكن، على الرغم من تحقيق النصر العسكري المصري، دخلت الحكومة المصرية في سلسلة من المفاوضات كان من نتائجها الاعتراف بشرعية الاغتصاب الصهيوني للأرض الفلسطينية، فتكون بذلك قد ألغت نتائج حرب العام 1973م، وجرَّدتها من شروط الانتصار، وحوَّلت نتائجها إلى هزيمة عندما تنازلت للعدو عن الحقوق الوطنية والقومية؛ علماً أن مصر –التي أشرفت على إدارة قطاع غزة بعد حرب العام 1967م- ليس لها الحق، بموجب الواجب القومي نحو القضية الفلسطينية وموجب المستلزمات القانونية، أن توقِّع اتفاق سلام مع الصهيونية دون ضمان حقوق الشعب الفلسطيني.
ولما كان الهدف الصهيوني، من استخدام وسائل القوة، الحصول على تنازلات من الفلسطينيين والمصريين، في العام 1967م، ولما لم تحقق الصهيونية تلك الأهداف، فإنها لم تسجل نصراً كاملاً. ولما امتنع الفلسطينيون والمصريون عن تقديم تلك التنازلات يكونون كمن جعلوا الهزيمة غير كاملة.
لكن لما اعترفت مصر بمشروعية الأهداف الصهيونية –على الرغم من النصر العسكري المصري في العام 1973م- تكون، على قاعدة ذلك الاعتراف، قد ألغت انتصارها العسكري وسجَّلت هزيمة فكرية وإيديولوجية، وهزيمة قيمية إنسانية.
ليست، إذاً، نتائج العمليات العسكرية النظامية هي التي تحدد مفاهيم النصر والهزيمة، بل الرضوخ والتنازل عن الحقوق أو رفض التنازل عنها هي التي تحددها.
استناداً إلى ذلك، نرى أنه لا بُدَّ، أمام حركة الفكر العربي، من نقد تلك المفاهيم، كخطوة على طريق صياغتها من جديد على ضوء التجارب النضالية للحركة الثورية العربية. ولهذا سنعمل على الإسهام في تلك المهمة.

أولاً : المفاهيم التقليدية للنصر والهزيمة قاصرة عن التعبير عن تجارب الأمة النضالية :
وكأن القوى الخارجية المعادية للأمة قد أسرت بنيتنا الثقافية في دائرة الحرب النظامية؛ فتناسينا، في خطابنا الفكري والثقافي والسياسي، أن في حياة الأمة مجموعة من التجارب / الدروس النضالية، تبتدئ من تجربة الجزائر، وتمر بتجربتيْ المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وتنتهي –في هذه المرحلة- بتجربة العراق.
بين المسألتين: الحرب النظامية، وحرب التحرير الشعبية، مسافة دفعت ببنيتنا الفكرية إلى نقد الأنظمة من دون أن نولي اهتماماً لدور الشعوب، التي أثبتت التجارب القومية والعالمية دورها المؤثر في حركات التحرير.
فبمثل الآليات النقدية الفكرية والثقافية السابقة تحوَّلت بنية المجتمع العربي الثقافية إلى بنية مهزومة، وانطبعت حركة العرب الثقافية –منذ هزيمة الأنظمة العربية في حرب فلسطين في العام 1948م- بأدب وفكر الهزيمة. فأصبح من السائد كأن العرب لم يعرفوا النصر بل هم من الشعوب التي لا تعرف إلاَّ الهزائم.
انعكس المناخ الفكري والثقافي والشعبي -حول ما يحلو للبعض أن يصفه بهزيمة النظام العراقي في الحرب الأخيرة- على تقييم الخطاب الفكري والسياسي والثقافي لما حصل في العراق، منذ التاسع من نيسان من العام 2003م.
لقد نال الحدث الغامض الذي أحاط باحتلال بغداد قبل أن يحين الموعد العملي لسقوطها –كما كان يحسب معظم المراقبين- كل الاهتمام عند أكثر الأوساط الحزبية والشعبية والرسمية، وكأن ذلك شكَّل حسماً للمعركة، وُضعت فيها تيجان النصر على هامات الأميركيين، ونال العرب –هذه المرة- هزيمة أخرى في العراق.
في تلك المرحلة حسب معظم المتابعين للحدث أن رايات النصر والهزيمة –التي وزعها جورج بوش- كانت النتائج النهائية للحرب التي دارت رحاها على أرض القطر العراقي. ولكن لما تواترت الأنباء -بعد أقل من أسبوعين من احتلال بغداد- عن قيام عمليات عسكرية –على قاعدة حرب العصابات- تقوم بها مجموعات عسكرية عراقية، انشدَّت أنظار الجميع –من جديد وبشيء من الاعجاب- باتجاه الفعل العراقي المقاوم ضد قوات الاحتلال الأميركي – البريطاني. وأدرك المراقبون أن ما أعلنه جورج بوش لم يكن يعبِّر عن الواقع، لأن ظهور المقاومة الشعبية يشكل استمراراً لتلك الحرب، ولكن بوسائل غير نظامية.
هنا نتساءل كيف حصل هذا التغيير في الأحكام بمثل تلك السرعة؟
بسرعة تغيير الأحكام، تساوت الجماهير الشعبية، والمنظمات الحزبية والثقافية والفكرية. وليس هذا التساوي مما يمكن أن نهمله، بل من الواجب أن نفتِّش عن تفسير له.
إن السرعة في تغيير الأحكام من ظاهرة واحدة، يتم بين ليلة وضحاها، ليس إلاَّ مستوى من المزاج والأحكام المزاجية، وهي من انعكاسات منهج التفكير الذي يشكل خصوصية في العقل العربي الراهن. هذا العقل الذي لم يرتق، أو لم تستطع المؤسسات الفكرية أن ترتقي به إلى المستوى الناضج الواعي والموضوعي. وتتمظهر حالات القصور في سرعة تغيير الأحكام حول حدث محدد، كمثل ما حصل من تغيير في الأحكام بعد احتلال بغداد. بحيث تحوَّلت الأحكام من الاستغراب والاستهجان والسخط أحياناً حول نتائج ما سُمِّي –في وقته- بالهزيمة العراقية، إلى الاعجاب والتشجيع بعد تمظهر المقاومة العراقية –على قاعدة حرب العصابات- أما السبب في مثل ذلك التغيير السريع فيعود إلى عامل المزاج –الذي أسهمت في تكوينه آليات التفكير التقليدي لمفاهيم النصر والهزيمة، ولم يأخذ بعين الاعتبار عامل التحليل العقلي، الذي من الواجب أن يستند إلى آليات جديدة مُستَخلَصة من تجارب السنوات الخمسين التي تفصلنا عن حرب فلسطين في العام 1948م.
ونرى أن الخروج من مزاجية الأحكام، المبنية على آليات الخطاب الفكري الثقافي السياسي التقليدي، يتم من خلال وضع مفاهيم جديدة، تأخذ بالاعتبار قيم الحق في الدفاع عن الأرض الوطنية بشتى السُبُل المتاحة، ومنها وسائل الكفاح الشعبي المسلَح، وقيم الممانعة في التنازل عن تلك الحقوق، مهما كانت الضغوط العسكرية النظامية للقوى المعادية، كما الممانعة في الاعتراف للدول الغاصبة بمشروعية أهدافها مهما بلغ الثمن من النضالات والتضحيات.
ثانياً : إسهام في تعريف جديد لمفاهيم النصر والهزيمة
حان الوقت لأن ترتقي الحركات الحزبية والثقافية والفكرية من مستوى المزاج إلى المستوى الفكري الاستراتيجي. ونُعيد أسباب المساواة، في إطلاق الأحكام بين الشعبي والثقافي والفكري، إلى تقصير في المفاهيم الفكرية العامة، أو المفاهيم الفكرية السياسية الخاصة، التي نستعين بها في إطلاق الأحكام على الظواهر. وتتحمَّل الحركة الفكرية العربية مسؤولية القصور، لأنها لم تجهد نفسها من أجل إعادة النظر في المفاهيم الفكرية والثقافية والسياسية ذات العلاقة بحركة النضال القومي العربي، فانعكس القصور سلباً على الواقع الثقافي العربي بشكل عام، وعلى ثقافة الجماهير الشعبية بشكل خاص.
على الرغم من التجارب المهمة التي حصلت على الصعيد القومي، التي تتمظهر بوسائل الكفاح الشعبي المسلَّح، والنتائج الإيجابية التي حصلت عليها بعض الأقطار العربية، ظلَّ الفكر العربي المعاصر مأسوراً في داخل مفاهيم تقليدية تحصر وسائل الصراع بين الأمة وأعدائها في موازين القوى العسكرية التقليدية، والاقتصار على نتائجها في صياغة مفاهيم النصر والهزيمة. ولم يرتق إلى دراسة عوامل الكفاح الشعبي المسلَّح، كعوامل أثبتت جدارتها في حساب موازين القوى.
نحسب، هنا، أنه لو قامت الحركة النقدية الفكرية العربية بالنظر إلى تلك المفاهيم، برؤى جديدة تتناسب مع تجربة الشعب العربي النضالية، فسوف تعمَّقها في الثقافة العربية الشعبية، وتنقل الأحكام –حول النصر والهزيمة- من مستوى المزاجية إلى مستوى الأحكام الواعية والموضوعية؛ وبذلك، تنتقل بالثقافة العربية من الإيمان بثوابت جائرة تحمِّل العرب وزر هزيمة دائمة لم تحصل، ومن تحميلها وزر الاعتراف للقوى المعادية بنصر لم يكتمل.
لهذا السبب سنحاول –من خلال هذه الدراسة- القيام بإسهام للتجديد في مفاهيم النصر والهزيمة، وبناءً عليه، سننتقل إلى دراسة مرحلة ما بعد الإعلان الأميركي عن انتهاء الحرب في العراق في أول شهر أيار / مايو من العام 2003م.
ليس من المستغرَب أن تعلن قوى الاحتلال، وتلك التي تستند في تقييماتها إلى مكاييلها الخاصة التي لا تستقيم مع قيم الثورة، أنها انتصرت، وألحقت هزيمة بالعراق. ولكن المستَغرَب أن يتبنى الخطاب العربي الناقد، سواء الصادق منه أو المتلوِّن، منطق إعلان الهزيمة.
لم تكن الهزيمة وصفاً يطول تجربة الصراع العراقي – الأميركي، فحسب، بل إن الحديث عنها –أيضاً- أصبح حقيقة فكرية سياسية تستخدمها كل تيارات حركة التحرر العربية في وصف نتائج كل الصراعات السابقة بين الأمة العربية وأعدائها. وأصبح أدب الهزيمة سمة من سمات الخطاب العربي. وأصبح الترويج له، سواء كان صادراً عن سلامة الطوية أو سوئها، يسهم بشكل غير مباشر في تأسيس حالة انهزام نفسية تنعكس آثارها على ثقافة الجماهير الشعبية. فتكون تيارات حركة التحرر العربية -بتثبيتها لمثل ذلك الخطاب- كمن تضع في مواجهة نضالاتها الكثير من العوائق ومن أهمها زرع روح الانهزام واليأس في نفوس الجماهير التي تشكل المعين الرئيس في رفدها بالبُنى البشرية الأساسية.
وحيث إن تيارات حركة التحرر العربية لم تعلن يأسها، وهي بحاجة إلى المعين الجماهيري لمتابعة النضال، وحيث إن الجماهير اليائسة لن تناضل، فعلى تيارات حركة التحرر العربية أن تحافظ على وسط جماهيري يتمتع بحد أدنى من المعنويات. ومن أجل تلك الغاية نرى أن عليها أن لا تزرع منطق الهزيمة النفسية من خلال خطابها السياسي والفكري الذي اعتادت على ممارسته نقداً لتجاربها الخاصة أو تجارب الآخرين.
تدفعنا تلك الرؤية إلى تفسير السبب الذي يسوِّغها. ويسوَّغ الموقف الذي يرفض الترويج للهزيمة وأدبها، وتغيير مفاهيمها كمصطلح سياسي. وبناء عليه إلى ماذا نستند في اتخاذ هذا الموقف، وكيف نعمل من أجل التأسيس لمفاهيم جديدة؟
لا شك في أن تأسيسنا لمفهوم جديد لمعاني النصر والهزيمة سوف يثير استغراب الأكثرية من حركة الناقدين لشتى تجارب الأمة العربية. خاصة أن الخطاب السياسي والفكري المرحلي، انتهج خطاً مسكوناً بهاجس الهزيمة. ويتَّسم هذا الخط بمنهجية الإلغاء لكل نتائج التجارب السابقة، السلبي منها والإيجابي،و رفض تفسير الأمور على واقعيتها من دون مبالغة في تسقيط التجارب بالكامل أو في تثبيتها بالكامل.
وهنا نتوجَّه إلى تيارات الحركة الثورية العربية بما يلي: يعتمد الخطاب العربي السائد حدَّيْن لنتائج تصادم القوى العسكرية النظامية:إما هزيمة كاملة أو نصراً كاملاً. وهذا صحيح في المقاييس المادية، إذا انتهى الصراع بالاعتراف بمشروعية أهداف المنتصر أولاً. وثانياً، إذا توقَّفت حركة الصراع، ضده، بكل أشكالها.
وعلى هذا الأساس، إذا كان فقدان التوازن بالقوى العسكرية هو الذي يحدد نتائج الصراع بين خصمين، فعلى القوى التي لا تمتلك ما يوازي قوة خصمها على الصعيد العسكري أن ترضخ لشروطه؛ ويصبح من الجنون أن يقدم الضعيف على الدخول في حرب خاسرة سلفاً. وفي مثل تلك الحالة يبقى الحق للقوة، مما يلغي كل القيم الإنسانية ذات العلاقة بالعدل والمساواة، وقيم احترام إرادة الشعوب في المحافظة على استقلالها وحريتها في بناء الأنظمة السياسية التي تختارها بنفسها….
وإذا أصبح استسلام الضعيف، من دون مقاومة، إلى إرادة القوي قيمة من القيم الإنسانية. يعني كل ذلك أن على الشعوب الضعيفة أن تسلِّم كل مقدراتها إلى من يمتلك وسائل القوة العسكرية،
ولما كانت القوى الكبرى، التي تمتلك الإمكانيات العسكرية، تحول دون أن يمتلك أي شعب من الشعوب من وسائل القوة النظامية، ما يتيح له الدفاع عن نفسه، وبشكل خاص دول العالم الثالث، ويأتي على رأسها دول الوطن العربي،
يعني ذلك أن العرب لن يمتلكوا قوة موازية لقدرات الدول الكبرى، ويعني هذا، أيضاً، أنهم سوف يكونون مهزومين دائماً.
لهذا السبب، نرى أن على تيارات حركة التحرر العربية، إذا ظلَّت آليات تحليلها جامدة من دون تجديد، أن تعلن الهزيمة الدائمة مرة واحدة. وهذا أفضل من أن تعلنها بالتقسيط. كما أنها، في ظل غياب التجديد، تتحوِّل تيارات الحركة الثورية إلى جوقة من الندَّابين تحت ذريعة ممارسة النقد.
والأجدر بتلك التيارات، إذا أصرَّت على منهجها التقليدي في الندب / النقد، أن تعلن تأجيل صراعاتها مع قوى الاستعمار إلى أجل غير مسمى، على أن ترتبط حدوده الزمنية مع المرحلة التي تصل فيها الأنظمة العربية –وهي لن تصل- إلى امتلاك قدرات عسكرية تسمح لها بإحداث توازن في القوى بينها وبين أعدائها.
وحيث إن منطق التأجيل هذا، هو اللامنطق بعينه، نرى أن على حركات التحرر أن تضع في موازين القوى، في الصراع مع الإمبريالية والصهيونية العالمية، حسابات أخرى. ومن تلك الحسابات إدخال عاملين أساسيين وهما :
رفض الشعوب المغلوبة – عسكريا ً- تشريع أهداف العدوان، ورفض التنازل عن الحقوق الوطنية والقومية.
المقاومة الشعبية المسلَّحة ضد الاحتلال عامل أساسي من عوامل تعديل الموازين في القوى .
إن هذين العامليْن، إذا أصبحا من آليات التقييم الجديد في الفكر العربي، يستطيعان أن يردما المسافة الفاصلة بين مفهوميْ النصر والهزيمة.
أما بالنسبة للعامل الأول، فنرى أن ثقافة الدفاع عن القيم القومية والوطنية -كدفاع عن القيم الإنسانية- هو من الأهمية بمكان؛ وهو وحده- القادر على لجم أي جنوح فئوي -ديني أو مذهبي أو عرقي- نحو الغرق في الاستقواء بالخارج. كما أنه يزيل أي التباس بين مفاهيم الحقوق السياسية للمواطن وواجباته في الدفاع عن كيانه الوطني ضد كل أنواع العدوان الخارجي مهما كانت أسبابه ودوافعه.
وتأتي حسابات الدفاع عن القيم الإنسانية (الوطنية والقومية والسيادة على الأرض وعلى القرار ، والتصدي إلى منطق الظلم والاستعباد والاستغلال) في موقع التأثير على بناء الموجبات النضالية والتضحية بالنفس.من أجل الدفاع عنها..
أما حول العامل الثاني، المرتبط ارتباطاً وثيقاً مع العامل الأول، فتتم ترجمته من خلال أسلوب المقاومة الشعبية، ومن أهمها المقاومة الشعبية المسلَّحة الطويلة الأمد. و على الرغم من أن التقليديين من المثقفين الليبراليين يصفون هذا الأسلوب من النضال بالسوريالية، إلاَّ أن المقاومة الشعبية المسلَّحة –كما أثبتت كل وقائعها التاريخية- تشكل الأسلوب الذي يسهم في تعديل موازين القوى المادية العسكرية في الصراع بين الشعوب التي تنشد التحرر من الاحتلال الأجنبي وبين القوى المعادية الأجنبية.
وتدليلاً على أهمية حرب التحرير الشعبية، كأسلوب وحيد متاح لاستعادة التوازن -في ظل غياب التوازن العسكري النظامي- جاء في تقرير لوفد الكونغرس الأميركي إلى العراق ما يؤكد تأثير هذا الأسلوب وأهميته في إعادة التوازن في القوى بين القوة العسكرية لدولة تمتلك قوة عسكرية هائلة، وبين قوة لا تمتلك جزءاً يسيراً منها، ما يلي: »إن المدة التي سبقت سقوط صدام، وحتى يوم سقوطه كانت تمثل عملاً عسكرياً رائعاً من القوات الأمريكية ضد القوات العراقية، وإن العسكرية الأمريكية كسبت الحرب باقتدار بارع، ولكن يجب أن نقر ونعترف بأن العسكرية الأمريكية فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق الانتصار على هذا الشعب.«([1]).
استناداً إلى كل ذلك، نقول لكل من يحلو له أن يهلل للنصر الأميركي، أو يعلن سخطه على الهزيمة العراقية، إن المقاومة الشعبية –بشتى أشكالها ووسائلها، ومن أهمها المقاومة الشعبية المسلَّحة- تأتي في قلب العوامل التي على الشعوب التي لا تمتلك وسائل الانتصار العسكري النظامي أن توليها الاهتمام الكافي، ويأتي على رأس من نخاطبهم بعض من المثقفين والنخب من السياسيين المحسوبين على دوائر هذه الوطنية القطرية العربية أو تلك، أومن المحسوبين على القومية العربية.
أن تتمظهر بعض معالم المقاومة الشعبية لقوى الاحتلال –بشكل عام- لهو دليل على الممانعة والرفض، أي دليل على أن تلك القوى لم تتنازل للمحتل عن حقوقها ولم تعترف بمشروعية أهدافه، وتلك الممانعة، تدل على أن المحتل لم يحقق نصراً متكاملاً من جهة، وتدل على أن الشعب الممانع –على الرغم من احتلال أرضه- لم يستسلم إلى منطق الهزيمة من جهة أخرى.
ولهذه الأسباب نرى أن رفض التنازل عن عدد من القيم الوطنية التي يعمل المحتل على انتهاكها، ورفض التعاون مع المحتل هو من القيم الإنسانية. وتكون المقاومة المسلَّحة، التي تعتمد أسلوب حرب العصابات، عاملاً من أهم عوامل الرفض الوطني الذي يجرد العدوان من تحقيق نصر كامل، ويستبعد الهزيمة الكاملة للشعب المقاوم.

حسن خليل غريب
لبــنان في أيلول / سبتمبر 2003م

([1]) نشرت جريدة الأسبوع القاهرية، التي يصدرها مصطفى بكري في مصر، موجزاً لتقرير، كان قد أعدَّه وفد من الكونجرس الأميركي، كان قد قام بزيارة للعراق في النصف الأول من شهر آب/ أغسطس من العام 2003م. وجاء في التقرير مسألة ذات دلالة: بعد أن حاول أحد أعضاء وفد الكونغرس أن يرفع من معنوياته قائلاً: إنكم حققتم نجاحات جيدة جداً باعتقال رموز وقادة النظام العراقي السابق. أجابه، أحد الجنود الأميركيين، بالقول: إذا أردت أن تجعلنا في وضع آمن فلا بد أن تأمروا باعتقال كل أفراد الشعب العراقي، إنهم في محنة، ونحن في محنة أشد، … لأننا نجبرهم على فعل شيء لا يستسيغونه.
الاثنين 14 ربيع الاول 1425 / 3 آيار 2004

الجمعة، أيلول ٢٩، ٢٠٠٦

كتاب المقاومة الوطنية العراقية 3

بقلم : حسن خليل غريب

الفصل الثاني
تاريخية الصراع بين الأمة العربية والاستعمار

أولاً : نظرة تاريخية حول الأهداف الأمبريالية في الوطن العربي

منذ اللحظة التي أعلنت البورجوازية الناشئة في أوروبا، في القرن الثامن عشر الميلادي، إيديولوجيتها الأممية التي تجيز لها التوسع والسيطرة على دول العالم، والهدف من ورائها تأمين أوسع مساحة ممكنة للحصول على المواد الخام، وإيجاد الأسواق الاستهلاكية أمام منتجاتها الصناعية، كانت نقطة البدء في تأسيس معالم الإيديولوجية الأمبريالية.
تحوَّلت تلك الإيديولوجيا إلى مؤسسة دراسات فكرية وسياسية واقتصادية على أيدي الشركات الكبرى في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، على أيدي أكبر المتمولين الرأسماليين، روكفلر. ومن أهم مهمات تلك المؤسسات أن تروِّج لأفكار وترسم سياسات تطال حتى مجتمعات الأسواق الاستهلاكية المفترضَة. والغاية من ذلك أن تمهِّد الطرق أمام انتشار سيطرة رأس المال العالمي.
لذلك، انخرطت الدول الأوروبية في ورشة استعمارية رسمت السياسات الأولى لفرض سيطرتها على الوطن العربي بعد سقوط النظام العثماني التركي في الحرب العالمية الأولى، في الربع الأول من القرن العشرين.
وانتقلت الإيديولوجيا الأمبريالية إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد أن تعزز دورها العسكري وتأثيرها الاقتصادي في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وانتقل معها تأثير اللوبي الصهيوني، كجزءٍ أساسي من قوى الرأسمال العالمي.
بدأ الإعداد الأميركي للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط بشكل عام وعلى الوطن العربي بشكل خاص، منذ أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، حيث كان العراق من أهم الدول العربية التي انخرطت في التحالف الموالي للإدارة الأميركية، إذ كانت بغداد مقراً لما كان يُعرف ب»بحلف بغداد« الذي ضمَّ إلى عضويته كلاً من إيران وتركيا وباكستان. ولم تكن مدة ذلك الحلف طويلة لأنها انتهت بقيام ثورة 14 تموز / يوليو من العام 1958م، وتلك من المفاجآت المعادية التي لن ينساها الأميركيون، وعلى أساسها ظلَّت بغداد هدفاً استراتيجياً للمطامع الأميركية. وازداد الهدف أهمية، لأنه أخذ يشكل الخطر الأكبر الذي يحول، أو قد يحول، دون استكمال السيطرة الأميركية على الثروة البترولية العربية، وكان ناقوس الخطر الأكثر تخويفاً لمطامع الشركات الرأسمالية الكبرى، هي الخطوة التي أقدم عليها العراق في حزيران من العام 1972م، والتي تمثَّلت بقرار نظام حزب البعث العربي الاشتراكي في تأميم الثروة النفطية العراقية.
ترافقت خطوة تأميم الثروة النفطية العراقية مع عدد من المتغيرات والخطوات الجديدة التي أخذ نظام الحزب يستفيد منها بواسطة العائدات الكبيرة لتلك الثروة، ليس على صعيد الاستفادة منها في مجالات التنمية الوطنية، بل أخذت أهميتها تبرز من خلال الدعم الذي كان يقدمه العراق إلى حركات التحرر العربية، ومنها بعض الأقطار العربية في صراعها مع العدو الصهيوني.
ولما نجحت الإدارة السياسية الأميركية في تطويع الموقف المصري –من خلال اتفاقيات كامب ديفيد- حيث يوجد أكبر خزان شعبي عربي، تحوَّلت الأنظار الأميركية إلى النظام السياسي في العراق، الذي يمثِّل أكبر خزان اقتصادي وثوري.
قام ذلك النظام بدعم الرافضين للسياسات الأميركية، على قاعدة إيمانه بالنضال ضد الاستعمار ومصالحه وأدواته، فتوجَّهت إليه بشكل حاسم وراحت تعد السيناريوهات من أجل إسقاطه. وكان الحماس الأميركي أكثر حرارة لأن أهدافها لقيت حماساً وإصراراً صهيونياً على تنفيذها لأكثر من سبب، ومن أهمها:
- فكره الثوري على الصعيد العربي القومي الوحدوي، وبه يشكِّل النقيض الأخطر لمخططات سايكس – بيكو، بشتى اتجاهاتها ومراميها وأهدافها على الصعيدين الصهيوني والإمبريالي. ولمثل هذا السبب، كانت اتجاهات حزب البعث العربي الاشتراكي تمثِّل الخطر الرئيس([1]) على مصالح التحالف المذكور، فكان من أهم الأسباب التي وضعته على لائحة الاستهدافات الصهيونية والإمبريالية، منذ الخمسينيات من القرن العشرين، أن الاستراتيجية الأميركية - منذ ذلك الوقت- كانت تقوم على ضرورة محاصرة المراكز الثورية العربية وإسقاطها([2])، ولم يخف الأميركيون خشيتهم من أهداف الحزب، وهذا ما أظهرته تصريحات، وأوامر، وقرارات، بول بريمر (الحاكم الأميركي المدني للعراق بعد الاحتلال)([3]).
- كان قرار تأميم النفط العراقي، في حزيران/ يونيو من العام 1972م، هو البداية الحاسمة التي جعلت دول العالم الرأسمالي تخشى من قيام أنظمة مماثلة لنظام حزب البعث في العراق؛ ومنها أخذت الإدارة الأميركية –المؤتمِرة بقرار الشركات الرأسمالية الكبرى- تخطط من أجل احتواء ذلك النظام، وإرغامه على التراجع عن الخطوات الاقتصادية التي تضر بمصالح الدول الرأسمالية، أو – إذا لم تنجح سياسة الاحتواء- استخدام القوة العسكرية.
- تأكد إصرار النظام السياسي في العراق على رفض محاولات الاحتواء والتهديد، بعد أن بدأ في التأسيس لمشروع عربي نهضوي مستفيداً من عائدات الثروة النفطية الهائلة. وبرزت معالم تلك الأهداف من خلال بناء أنظومة علمية تحوِّل العراق إلى بلد منتج للعلم والمشاريع الصناعية الطموحة. وكان من أخطرها بناء مفاعل تموز النووي. ومن أجل بناء المنظومة العلمية على أسس سليمة سلك النظام في العراق طريق استقدام العقول العلمية العربية من جهة، وتأهيل آلاف العلماء العراقيين من جهة أخرى. ولم يمر وقت طويل، بعد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية، حتى تبيَّن أن العراق قد تحوَّل إلى بلد منتج.
- كان النظام في العراق يسلك طريق التقدم العلمي والاقتصادي والسياسي في بناء علاقات مع شتى الأقطار العربية، من خلال مشاريع التجارة والتصنيع المدني والعسكري، مما يؤشر على وجود مخططات واعدة وطموحة لتخليص الاقتصاد العربي من هيمنة الاقتصاد الرأسمالي، وهذا يُعدُّ من أهم مقاتل ذلك الاقتصاد.
- كان النظام السياسي في العراق يقوم بصرف جزء من عائداته النفطية لمصلحة قوى التحرر العربية، وإسنادها بجزء من الإمكانيات اللازمة التي تساعدها على متابعة نضالاتها من أجل تحرر بلدانها من التبعية الاقتصادية للدول الرأسمالية؛ أو من أجل تحريرها من التبعية السياسية والأمنية لها.
- دعمه للثورة الفلسطينية أولاً، أما ثانياً فللثأر التاريخي من العراق عندما سبى نبوخذ نصَّراليهود إلى بابل منذ عدة آلاف من السنين. أما الدليل على مدى تأثير الاستراتيجية الصهيونية تلك على قرارات الإدارات الأميركية المتعاقبة فهو قيام الطائرات من الكيان الصهيوني، في وقت مبكر من إعلان النوايا الأميركية، بقصف المفاعل النووي العراقي في تموز من العام 1981م.

ثانياً : حقيقة الأهداف الإنجلو أميركية نقيض للحقوق الوطنية العراقية

تتجلى أهداف الصراع العربي - الأمبريالي بشكل رئيس في أطماع الأمبرياليين بثروة العرب النفطية، ومن أهمها ثروة الشعب العراقي التي استعصت على الإرادة الإمبريالية. ومن أجل السيطرة عليها حيكت ذرائع لتضفي مشروعية على أي أسلوب يستخدمه الأمبرياليون لتحقيق أهدافهم. وحيث إن عوامل الضغط السياسي على العراق لم تف بالغرض المطلوب، أي لما لم يستجب النظام السياسي في العراق للضغوط السياسية، كان لا بُدَّ للخصم الأمبريالي من التخطيط لاستخدام الضغوطات العسكرية المباشرة، أي استخدام عامل تفوقه العسكري.
إن أطماع الإمبريالية تتركَّز بالدرجة الأولى حول سلب الثروات العراقية، ومنع العراق من حقه في حماية ثروته الوطنية. والعمل من أجل طمس ثروة العراق التاريخية التي تستند إلى التُراث الحضاري الذي تعود جذوره إلى عشرات الآلاف من السنين، بحيث تراكمت التجارب الحضارية منذ أول معلم من معالم الحضارة البشرية التي شهدتها أرض ما بين النهرين.
وبكل مشروعية تستند إلى القيم الإنسانية، كان على النظام السياسي في العراق أن يشهر قوة الممانعة ضد عوامل الضغط السياسي الأميركي. ولما لوَّحت الإدارة الأميركية باستخدام قوتها العسكرية الضخمة ضد العراق على قاعدة أنه إذا لم ينصع إلى التنازل بالتفاوض فسوف يتم إرغامه على ذلك بالقوة. في مثل هذه الحالة كان لا بُدَّ للعراق ، من الاستمرار في ممانعته مستنداً إلى بعض ما يمتلكه من القوى المادية، على الرغم من عدم تكافؤها مع القدرات الأميركية من جهة؛ ويستند، من جهة أخرى، إلى قوة إيمانه بحقوقه الوطنية.
إن تمسك العراق بحقوقه في استثمار ثروته الوطنية كان السبب وراء قرار تأميم ثروته النفطية في العام 1972م. التي كانت تتعرض للسرقة من تحالف رأسمالي بريطاني – أميركي – فرنسي. ولما كانت تلك الثروة حقاً من حقوق الشعب العراقي، وظَّف النظام السياسي الذي قاده حزب البعث العربي الاشتراكي منذ العام 1968م، تلك الثروة لمصلحة الشعب العراقي، وقام بتوظيف جزءٍ منها للدفاع عن الحقوق القومية وحمايتها في أكثر من قطر عربي، فقدَّم مساعدات إلى أكثر من حركة ثورية عربية تعمل من أجل مقاومة هجمة الرأسمال العالمي بالتحالف مع الصهيونية.
ولهذا كان إلغاء قانون تأميم النفط من أهم أهداف الاحتلال الأميركي للعراق. ولم يخف اعترافه بأهمية هذا الإجراء، وراح يعمل بالسرعة الملفتة للنظر من أجل إلغاء القانون الصادر عن قيادة ثورة 17 – 30 تموز / يوليو من العام 1972م، واستخدم السلطة الوهمية لما يُسمَّى (مجلس الحكم الانتقالي في عراق ما بعد الاحتلال) لتشريع قراراته الاقتصادية؛ وهو السبب الذي دفع قيادة الحزب في القطر العراقي، وقيادة المقاومة العراقية، الى تنبيه الرأي العام العراقي والعربي إلى خطورة هذا الإجراء، وإلى تهديد ما يُسمى بمجلس الحكم الانتقالي من تنفيذ مآرب الاحتلال وأهدافه الحقيقية من احتلال العراق([4]).
أما إذا أردنا أن نذكر بعض عناوين مظاهر توظيف الثروة الوطنية العراقية لمصلحة الشعب العراقي، فإننا نجد ما يلي:
- ثورة في التنمية العمرانية : وهذا لن يكون إلاَّ واضحاً من خلال مقارنة شارع الرشيد –الذي كان من أهم مظاهر التقدم العمراني في بغداد قبل ثورة العام 1968م - مع ما تبدو عليه بغداد اليوم. وقياساً عليه يمكننا مقارنة تلك التنمية على صعيد مساحة العراق كله، وخاصة في المدن العراقية الرئيسة، من دون أن نهمل ما حصلت عليه القرى الصغيرة أيضاً.
- التنمية العلمية الشاملة : وهذا ما تدل عليه مظاهر انتشار الجامعات في كل المدن العراقية. والجامعات –كمظهر من أهم مظاهر التنمية العلمية- وسَّعت ميادين الاختصاص في البحث العلمي حتى شملت كل ما له علاقة بالتكنولوجيا الحديثة. والذي كان يتتبَّع مشاهد رحلات فرق التفتيش عن الأسلحة العراقية، منذ العام 1992م حتى آذار من العام 2003م، رأى أهمية وحداثة تلك التنمية. وليس هناك دليل أبلغ من وجود آلاف العلماء العراقيين المختصين بشتى أنواع التكنولوجيا المعاصرة؟(V).
هنا لا يمكننا إلاَّ أن نسجل بأن مجانية التعليم في العراق، منذ مراحله الابتدائية الإلزامية وصولاً إلى المراحل الجامعية والتعليم العالي مفتوحة الأبواب أمام كل العراقيين، ناهيك عن الطلاب العرب الذين يعدون بعشرات الآلاف الذين تخرجوا من تلك الجامعات. وتأتي لامركزية التعليم الجامعي، بحيث لا تخلو أية مدينة عراقية من العديد من الجامعات والمعاهد المختصة.
-الضمان الاجتماعي والصحي : وهو ضمان شامل ولامركزي، بحيث تعم المؤسسات الصحية، وهي من المؤسسات المتقدمة، كل أنحاء العراق. وإذا كانت القرى غير مزوَّدة بالمستشفيات فإنها لا تخلو من مراكز صحية تؤمن الخدمات الطبية المجانية الضرورية لكل المواطنين.
- يمتاز العراق بتأمين فرص العمل الواسعة لكل خريجي الجامعات والمعاهد، ولهذا كان مما يمتاز به العراق، قبل الحصار الذي فُرض عليه من العام 1991م، بأنه كان يوزع المواد الغذائية الضرورية المجانية على كل المواطنين بدون استثناء. وهذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج بأن العراقي، كان هو الوحيد في العالم الذي يجد باستمرار ما يأكله، وهو الوحيد الذي لا يتعرض للجوع.
-كانت من خطط التنمية التي وضعها نظام الحزب في العراق ما يبرهن على أن تحويل المجتمع العراقي من مجتمع مستهلك إلى مجتمع منتج من أهم هموم النظام السياسي. لتلك الغاية بنى النظام مؤسستين صناعيتين، وهما:
المؤسسة الأولى : وهي المؤسسة الصناعية ذات الانتاج المخصص للاستهلاك المدني والتي كانت تعمل على بناء المصانع التي كان من المقدر لبعضها أن يتحول إلى مصدر للسوق الخارجي، لولا بعض ما واجهته من منع ومحاربة ضد دخول بضائعها حتى إلى الأسواق العربية، ومن أهمها مصانع الاسكندرية لتصنيع الجرارات والشاحنات. أما بعضها الآخر فقد كان يلبي حاجات الاستهلاك المحلي العراقي، والبعض منه كان يتم تصديره إلى الخارج، ومن أهمها إنتاج مئات الأصناف من الأدوية.
أما المؤسسة الثانية : فكانت تهتم بالتصنيع العسكري، لكي يتحرر العراق من عبء استيراد الأسلحة وصفقات شرائه التي لا تغيب عنها كثرة الشروط والقيود. ناهيك عن أن الدول المصدِّرة للسلاح لا تزوِّد العرب سلاحاً يؤمِّن لهم التفوق، أو حتى موازاة السلاح الذي يُزوِّد به الكيان الصهيوني، خاصة من حيث النوعية، والكفاءة الفنية والتكنولوجية.
كادت مؤسسة التصنيع العسكري العراقي تنتج، وقد انتجت فعلاً في مرحلة من المراحل، أنواعاً من السلاح الاستراتيجي. وكان هذا يعني بداية فعلية لإحداث توازن في القوى العسكرية بين الكيان الصهيوني والأمة العربية، وهذا من أكثر الأسباب إلحاحاً التي سرَّعت في العدوان الثلاثيني على العراق في العام 1991م.
استناداً إلى كل ما سبق، نرى أن المشروع النهضوي العراقي كان، بطموحاته القومية العربية، من أخطر المشاريع التي تحدَّت استراتيجية الرأسمال العالمي بطموحاته الاستعمارية العالمية. ومن هنا وُضِع العراق على رأس استهدافات القوى الرأسمالية السياسية العالمية، وعلى رأسها المؤسسة الصهيونية والأميركية. وبعد أن أمَّم ثروته النفطية، وأصبح أمر العدوان على العراق أكثر إلحاحاً عندما أخذ يدخل العصر العربي المعاصر من بوابة الإنتاج العسكري.
وقبل أن يمتلك العراق قوة نووية حتى ولو كانت من أصغر الأحجام، ضُرب المفاعل النووي العراقي، في العام 1981م، بواسطة الطائرات الصهيونية المعادية. ولما فشلت المراهنة على خروجه ضعيفاً من حربه مع إيران، وما إن وضعت تلك الحرب أوزارها في صيف العام 1988م، حتى ابتدأت قوى الرأسمال العالمي والصهيوني تعد لجولة مباشرة من الضغوطات قادت إلى العدوان الثلاثيني في العام 1991م، ولما استمر العراق في الممانعة على الرغم من ذلك العدوان، استمر الحصار عليه من جهة واستمرت الضغوطات العسكرية والسياسية من جهة أخرى، ولما لم تجد نفعاً، حينما بقي الموقف العراقي مستعصياً ضد الإرادة الرأسمالية الأميركية الصهيونية، اتخذت الإدارات السياسية لتلك القوى قراراً بالحرب، وراحت تفتش عن ذرائع لتبريره. وقامت بتنفيذ قراراها منذ العشرين من آذار من العام 2003م.

حسن خليل غريب
لبــنان في أيلول / سبتمبر 2003م

([1]) هيكل، محمد حسنين: سنوات الغليان: مركز الأهرام: مصر: 1983م: ط1: ص 254.جاء حول هذه المسألة أن أميركا كانت تحسب سوريا أخطر نقطة في الشرق الأوسط، لأن مصدر قوِّتها هو جيشها الذي كانت أغلب ضباطه متحمسة للتوجه القومي العربي، والجماعات المؤثرة فيه كانت على صلة مع حزب البعث العربي الاشتراكي.
([2]) راجع بحثنا المنشور تحت عنوان في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام: دار الطليعة: بيروت: 200م: ط2: صص 370 – 372.
([3]) تمظهرت مخاوف المشروع الإمبريالي من حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال تصريحات بريمر وقراراته. فأما التصريحات فقد كانت تأخذ مضامين »اجتثاث عناصر حزب البعث«، التي كانت تصدر تارة عنه، وتارة أخرى عن عملاء الاحتلال من العراقيين. أما حول القرارات فقد اتخذ بول بريمر قراراً بإلغاء فلسفة حزب البعث من كل المناهج الدراسية. وأصدر أمراً، في الأول من أيار من العام 2003م، بعنوان: »تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث«. ]راجع ملاحق الكتاب[.
([4]) حذَّر بيان صادر عن منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، بتاريخ 11/ 7/ 2003م، من مشروع بريمر الخطير، وجاء فيه –في معرض تواطوء مجلس الحكم الانتقالي مع مخططات الاحتلال في سياقاتها الاقتصادية- ومنها الموافقة على مخطط بريمر الداعي إلى: »تخصيص القطاع النفطي الوطني وفتح الطــــــريق لاستثمارات الشركات الأجنبية«. ]راجع ملاحق الكتاب[.
V تجدر الإشارة، هنا، إلى أن بريمر –الحاكم العسكري الأميركي للعراق بعد الاحتلال- صرَّح بأن يسعى لخصخصة ما يقرب من (190) منشأة صناعية حكومية في العراق. ومن جانب آخر كانت قوات الاحتلال تعمل على ملاحقة العلماء العراقيين، الذين بنوا المشاريع الصناعية في العراق وعملوا على تطوير الأبحاث ذات الشأن بالبرنامج الصناعي العسكري العراقي. كما سرَّبت الأنباء معلومات عن جهاز أمني شكَّلته الموساد -جهاز مخابرات العدو الصهيوني- لملاحقة العلماء العراقيين وتصفيتهم، وأشارت الأنباء إلى تصفية تسعة منهم.
الثلاثاء 15 ربيع الاول 1425 / 4 آيار 2004

كتاب المقاومة الوطنية العراقية 4

بقلم : حسن خليل غريب


الفصل الثالث

آليات قرار الحرب الأميركية ضد العراق




أولاً: مراحل الإعداد الأميركي للعدوان على العراق

1- على صعيد المؤسسات الفكرية الموجِّهة للإدارة الأميركية

أصبح من المعروف أن المؤسسات المالية الكبرى، ومؤسسات الصناعات العسكرية منه بشكل خاص، هي التي ترسم سياسة الولايات المتحدة الأميركية. وهي التي تدعم هذا الفريق الأميركي أو ذاك للوصول إلى مواقع السلطة. فتصبح السلطة مرتهنة لإرادة تلك المؤسسات([1]). وفي الوقت نفسه، وحيث إن اللوبي الصهيوني هو الأقوى على التأثير على قرارات الإدارة الأميركية، تمَّ التوافق ما بين المصالح الرأسمالية الأميركية المباشرة ومصالح الحركة الصهيونية العالمية.

ولتحقيق تلك الإنجازات قامت المؤسسات المالية الكبرى بتأسيس مراكز للدراسات تستند إلى تقاريرها ورؤاها في التخطيط لكل ما يسعفها في فرض هيمنتها على الاقتصاد العالمي. وإن ما صدر من كتب ودراسات انتشرت على الصعيد العالمي، مثل نبوءات »صدام الحضارات«(V)، و»نهاية التاريخ«(VV)… ليست إلاَّ جزءًا من إنتاج تلك المراكز التابعة للمؤسسات المالية الكبرى. واستمرَّ نشاط تلك المؤسسات ودورها على الرغم من تحذيرات أطلقتها بعض الأوساط السياسية الأميركية وأظهرت مدى خطورتها على الحريات العامة والممارسة الديموقراطية([2]).

ولما اتَّخذت المؤسسات المالية([3]) قرارها بالهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها الوطن العربي، راحت مراكز الأبحاث التابعة لها ، تقوم بوضع عدد من السيناريوهات(])، ومنها تلك التي وضعتها مراكز الأبحاث الاستراتيجية. فكان العراق أولوية أميركية([4]) لأكثر من سبب أشرنا إليه سابقاً في هذا البحث.

2- على صعيد تأمين الذرائع والقوى الدولية والاقليمية والعربية الداعمة لتغطية العدوان :

لقد خُطِّط لحرب احتلال العراق قبل وصول جورج بوش وإدارته إلى البيت الأبيض، من خلال انتخابات طغى عليها الاحتيال، في نوفمبر 2000م، ومن الواضح أن الأمر لم يكن يتعلق بأسلحة دمار شامل ولا بالإرهاب، وهي البدعة التي أخذت تتضح شيئاً فشيئاً من خلال ما انتشر على الملأ، بخصوص تزييف الأدلة، والتقارير الخادعة، والإرهاب الإعلامي وكل أنواع الضغوط، التي تمّ استخدامها والتلاعب بها، بالتواطؤ إلى حدّ كبير مع الصحافة الأمريكية الكبرى، في محاولة لتسويغ العملية العسكرية ضد العراق.

مهَّد جورج بوش للعدوان على العراق، في خطاب »حالة الاتحاد« أمام الكونغرس في 29/ 1/ 2002م، الذي أطلق فيه شعار »محور الشر« موجهاً الاتهام بالتحديد إلى العراق، مثيراً ذريعة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل([5]).

وفي شهر آب / أغسطس من العام 2002م، اتَّخذت إدارة جورج بوش الابن قراراً بالحرب ضد العراق، ومن بعده راحت تعمل من أجل تأمين غطاء شرعي دولي، كخطوة تزيح عبء الاحراج عن الأنظمة العربية الموالية للولايات المتحدة الأميركية والمتواطئة معها([6]).

أ-تمهيد ساحة الأنظمة العربية لتأمين غطاء عربي

منذ أن قادت الولايات المتحدة عدوانها الأول ضد العراق في العام 1991م، كانت معظم الأنظمة العربية في خندق التحالف معها. أما انخراطها في التحالف مع الإمبريالية الأميركية، فلم يكن وقتياً؛ بل لمثل هذا الخضوع أسباب تاريخية. أما الأسباب فهي متعددة ومتشعبة، تبتدئ من طبيعة التركيب الطبقي للنخب الاقتصادية والسياسية العربية، وتنتهي بإمساك قوى الرأسمال العالمي بالمفاصل الأمنية، والسياسية والعسكرية، من أجل حماية تلك الأنظمة، والعمل من أجل إبقائها على رأس السلطات الرسمية.

وباختصار، فإن المشروع النهضوي العراقي، بما أثار من مخاوف تلك الطبقات والنخب، كان دافعاً إضافياً لها إلى تقديم المزيد من التنازلات لقوى الرأسمال العالمي ومشاركتها في التآمر ضد نظام الحكم في العراق.

أما حول الحسابات التي وضعها تحالف بعض النظام العربي الرسمي مع قوى رأس المال خشية من ردود الفعل الشعبية العربية، فقد تم تأهيل قوى الأمن المختصة، بما يُسمَّى بمحاربة الشغب، من أجل احتواء ردود الفعل الشعبية بشتى الوسائل والإمكانيات، لكي تقوم بدورها، تارة بفسح المجال للقيام بتنفيس موجات الغضب على أن تكون تلك الفسح تحت السيطرة. وتارة أخرى باستخدام أساليب الاعتقال واستخدام القسوة في تفريق المظاهرات، وما إلى هناك من وسائل وأساليب، ومنها الاستفادة من خدمات مؤسسات ثقافية وفكرية وسياسية وإعلامية، تنتشر هنا أو هناك من الأقطار العربية. وهذا ما يدفع بنا، أيضاً، إلى تحميل مسؤولية كبرى لتلك المؤسسات، بما فيها من وسائل التضليل التي يقوم بها خبراء من المثقفين المرتبطين بمراكز أبحاث الشركات الصناعية الكبرى، واللامرتبطين بقضايا أمتهم ومجتمعاتهم. وليس من المستغرب إذا ما استنتجنا بأن هناك توأمة ما بين تلك المراكز والقوى العربية مع المراكز الأم التابعة للشركات الرأسمالية الكبرى.

استناداً إلى تلك الأسباب كانت الإدارة الأميركية واثقة من أن عدداً من الأنظمة العربية والإقليمية سوف تشارك في العدوان على العراق، حتى ولو تحت ستار بعض التحفظات([7]).

ب-تمهيد ساحة المعارضة العراقية في الخارج

تحتضن مراكز الأبحاث التابعة للشركات الأميركية الكبرى الآلاف من الاختصاصيين الذين تستقدمهم من معظم دول العالم للاستعانة بخبراتهم بأوضاع مجتمعاتهم لوضع الدراسات الملائمة التي ترشد مخططاتها في الهيمنة على أسواق تلك الدول، ورصد الاتجاهات السياسية فيها.

كما تقوم مراكز المخابرات التابعة للإدارة الأميركية بالاحتفاظ برصيد من الشخصيات والقوى من مجمل دول العالم، أيضاً، كاحتياط تستخدمه في تنفيذ مخططاتها. ويخضع هؤلاء إلى دورات من التأهيل التربوي العالي على أيدي اختصاصيين من مراكز المخابرات ليكونوا عوناً لها في تنفيذ مخططاتها في الدول المستهدَفَة بتلك المخططات. ويكون هؤلاء –عادة- من الناقمين على الأنظمة السياسية في أوطانهم الأم. ولتمتين روابط أولئك مع أجهزة الاستخبارات، تعمل تلك الأجهزة بإغراقهم بالامتيازات المادية والمالية، بحيث تربط مصالحهم الاقتصادية مع شركات أو شركاء لهم مواقعهم في المؤسسات المالية الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية، أو مع الشركات الكبرى في الدول الحليفة لها.

لم تكن المعارضة العراقية في الخارج، خاصة تلك التي لا ترتبط بإيديولوجيات حزبية، بمثل تلك الضخامة التي صوَّرتها وسائل الإعلام ذات الأهداف المرتبطة مع المشاريع الإمبريالية. ولذلك يعود تكوينها إلى بداية الحرب العراقية – الإيرانية. فمنذ تلك المرحلة أخذت التيارات السياسية المعارضة تنتقل بمشاريعها إلى خارج الحدود العراقية، وتجد من يحتضنها، سواء من الدول الإقليمية –كإيران مثلاً- أو من الدول الغربية، تحت صيغة حمايتهم من التصفية في بلدانهم إذا لم يُمنَحوا حق اللجوء السياسي. وتحت تلك الصيغ كان يتم إعدادهم وتربيتهم، كاحتياط يمكن استخدامه في وقت الحاجة إليهم.

ومن الملفت للنظر أن للمعارضة العراقية في الخارج تلاوين واتجاهات تصل إلى حدود التناقض، من دينية مذهبية إلى علمانية، من العاملين لبناء دولة ثيوقراطية مذهبية إلى العاملين من أجل بناء دولة مدنية. ومن الجدير بالذكر أن صيغة المعارضة المهاجرة لم تكن أنموذجاً للمعارضات المعروفة في تاريخ الدول، وإنما كان هذا الأنموذج فريداً من نوعه في العراق. ومن أهم الإشكاليات التي يطرحها هذا الأنموذج، إشكالية والتباس بين الوطنية والخيانة للوطن.

وتحت ستار الحق الديموقراطي أجازت، معظم تيارات المعارضة العراقية، لنفسها أن تكون في صفوف القوى الخارجية التي تمارس العدوان على أرضهم الوطنية وعلى شعبهم وأبناء وطنهم(\).

وهنا، تنجلي حقيقة تتناقض مع كل ما وقعت فيه قوى سياسية وحزبية عربية من خديعة حسبت معها أن الولايات المتحدة الأميركية عملت على تشكيل ائتلاف دولي تحت ذريعة الإطاحة بنظام سياسي يحكم العراق. بينما الواقع أن الأجهزة المختصة التابعة للإدارات الأميركية انتهزت فرصة وجود معارضين عراقيين في الخارج، فعملت على استدراج البعض منهم للتعاون معها موحية إليهم أنها سوف تساعدهم على إسقاط نظام يتهمونه بالديكتاتورية. ومن بعدها تقوم بتسليم السلطة لهم لبناء العراق على أسس ديموقراطية.

وأياً تكن وسائل احتواء المعارضة العراقية، بتياراتها وأحجامها، مشاركة البعض أو امتناع البعض الآخر، فإن الإدارة الأميركية كانت واثقة من مساندة أولئك لأي عمل عسكري قد تقوم به الولايات المتحدة ضد العراق([8]).

لم تكن صفوف المعارضين العراقيين موحَّدة الرؤية والموقف، فالبعض منهم تعاون عن سابق تصور وتصميم مع الأجهزة المعادية، لأن فرصة إسقاط نظام الحكم في العراق يعني أنهم سوف يكونون خليفة له، بحيث يتيح لهم الوصول إلى السلطة فرصة تقاسم ثروات العراق مع قوى الاحتلال.

أما قوى معارضة أخرى، مثل تلك التي تنطلق من رؤى طائفية سياسية، فقد برَّرت لنفسها التعامل، وكأن الإدارة الأميركية مقتنعة بأسباب معارضتهم لنظام حزب البعث، أو كأنها تعمل من أجل رسالة إنسانية تستجيب فيها لكل فئة تصور نفسها أنها مغبونة!! ولم يخطر ببالهم أن الإدارة الأميركية تستخدمهم مطية سوف تلقيها إلى جانب الطريق بعد أن تبلغ أهدافها بمساعدتهم.

وإذا أضفنا إلى الشريحة المذهبية، أولئك الذين تعاونوا لأسباب مذهبية مع إيران وحاربوا في صفوفها أبناء وطنهم وقوميتهم، فهم تابعوا مسيرة التنكر لوطنهم عندما استجابوا للتعاون مع »الشيطان الأكبر« تحت ذرائع أنهم يستفيدون من مخططاته في إسقاط النظام العلماني؛ ومن بعدها يتحولون إلى مرحلة طرد المحتل مما يتيح لهم بناء دولة ذات طبيعة مذهبية ثيوقراطية تستعين بجوارها الإيراني وتعينه.

أدَّت الأوهام بتلك الشريحة، إلى حسابات خاطئة، إذ ظنوا أن هناك سهولة في تحقيق النتائج التي يخططون لها. لكن الوقائع أثبتت أنهم كانوا منساقون بدون وعي لأبعاد المؤامرة وحجمها وأهدافها قياساً مع إمكانياتهم، ومدى ملاءمة مشاريعهم مع طبيعة العصر القومي وطبيعة العصر الأممي تحت هيمنة واستفراد رأس المال وشركاته العملاقة.

أما شريحة أخرى من المعارضين، وهم من العراقيين الذين تركوا بلدهم لغير أسباب سياسية، فتشعبت بهم الرؤى، فانفعل بعضهم بما أخذت قوى المعارضة تروِّجه من مظالم ادَّعوا أن النظام السياسي في العراق قد ألحقها بهم، والبعض الآخر وجد نفسه منشدَّاً إلى وطنه فلم يكن ميالاً إلى تصديق افتراءات المعارضة وتضخيمها من قبل المراكز الفكرية والسياسية التابعة للمؤسسات المالية الكبرى.

انطلق أول صوت للمعارضة العراقية من الحزب الشيوعي العراقي والمتعاطفين معه من المثقفين العراقيين، الذين عملوا على إسقاط الجبهة الوطنية والقومية التقدمية وبرنامجها الديموقراطي. وأخذت تتوسَّع مع بداية الحرب العراقية الإيرانية، ولكن تلك المعارضة لم تكن بارزة وذات تأثير إعلامي إلاَّ بعد العدوان الثلاثيني على العراق، في العام 1991م.

بعد أن فشل العدوان في تحقيق أغراضه في إسقاط النظام السياسي، راحت مراكز الأبحاث الأميركية تفتش عن خلق تبريرات وذرائع تغطي بدخانها مخططها العدواني في احتلال العراق. ولذلك نصحت بعض أوساط المعارضة العراقية الإدارة الأميركية بالتركيز على المسألة الديموقراطية([9])، وهي شعار رفعته تشكيلات المعارضة العراقية في الخارج، فالتقطت مراكز الأبحاث تلك الذريعة، وراحت تضعها تحت المجهر لتضخيم صورتها، وللترويج ضدها. وبمثل هذا الأسلوب حسبت مراكز الدراسات في أميركا أنها تكتسب عطف تيارات المعارضة العراقية، وتعاطف الرأي العام العالمي الداعم لنشر الديموقراطية.

ج- تمهيد الساحة الدولية لتأمين غطاء دولي للعدوان

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وقيام أميركا بتطويع دول أوروبا الشرقية من خلال المال أو الوعود به، وبعد أن قوَّض التحالف الرأسمالي آخر المعاقل المعترضة في يوغوسلافيا في العام 2000م، وبعد الحرب على أفغانستان، وبعد أن كبَّلت الإدارة الأميركية إرادة روسيا بالاقتصاد والأمن، شعرت أنها أصبحت طليقة اليدين في الوطن العربي، والعالم.

ولأن الوطن العربي يمتلك السوق والثروة فقد جاء على رأس قائمة الأهداف الأميركية. واشتدَّ الضغط على النظام السياسي في العراق لأنه كان خارج بيت الطاعة الأميركي، وكان يظهر الرفض للمخططات الأميركية، ويمارسه بالفعل في مواجهة الاستراتيجية الأميركية الصهيونية.

وبعد أن صنَّعت معارضة عراقية مطواعة لتعليماتها، في أي عمل عدواني تشنَّه على العراق، راحت الإدارة الأميركية تستثمر عوامل القوة التي تمتلكها على الصعيد العالمي والعربي والعراقي، وتضعها في خدمة أسلوبها الضاغط على النظام السياسي في العراق، وراحت تعمل على تمهيد ساحة القرار الدولي لتضعه في دائرة تشريع عملها في احتلال العراق.

كانت المواقف الأميركية محسومة إلى جانب الضغط على العراق لتحقيق مآربها، بالتفاوض أو بالقوة، ولهذا راحت تعمل من أجل المزيد من الضغط السياسي والاقتصادي، وكان يتم ذلك تحت ذرائع التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل المزعوم وجودها في العراق. وعلى الرغم من أن فرق التفتيش الدولية قد اقتربت من تقديم تقرير يثبت خلوه من تلك الأسلحة، خاصة وأنها قامت بتدميرها، ووضع كاميرات مراقبة للمنشآت التي كانت تنتجها، كان الهم الأساسي أمام الإدارة الأميركية أن لا يصدر أي تقرير عن فرق التفتيش يصب في مصلحة فك الحصار، لأنه في غير مصلحة الإدارة أن يُسقِط العراق الذرائع التي تبرر الحصار المفروض عليه قبل أن ترغمه الولايات المتحدة على الإذعان للقبول بإملاءاتها.

تأكَّدت الإدارة الأميركية بأن العراق لن يستجيب لضغوطاتها، وكانت تلك القناعة مترافقة مع التغيير الرئاسي الذي أتى بجورج بوش الابن، الواقع تحت السيطرة التامة للتوجه الديني والفكري والسياسي الذي تقوده الشركات الأميركية الكبرى بمساعدة اللوبي الصهيوني؛ فحددت ساعة الصفر باللجوء إلى الخيار العسكري ضده.

كان من متممات قرار الحرب على العراق، أن تلجأ الإدارة الأميركية إلى مجلس الأمن واستعجاله بالموافقة على قرار يؤمن لها غطاءً دولياً يضفي شرعية دولية للقيام باحتلاله. وعلى الرغم من أنها عجزت عن إشراك دول المجلس في الحشد العسكري، كانت ملحاحة –في تنفيذ مشروعها العدواني- إلى الحدود التي كانت فيها على استعداد للقيام به بمفردها.

وهنا، نطرح التساؤل حول الأسباب التي دفعت بالدول الكبرى إلى ممانعة الإدارة الأميركية عن إعطاء الإدارة الأميركية غطاءً دولياً يشرِّع لها عدوانها. وحول ذلك، نرى من المفيد أن نرسم صورة للعلاقات الدولية السائدة بين الدول الكبرى.

تتحكَّم المصالح الاقتصادية بتلك العلاقات، وهي تقوم –غالباً- بينها على أساس مساومات ومفاوضات تضمن –من خلالها- كل دولة مصالحها. فالعرف السائد أن المصالح لا تُكال –في صراع المصالح- بالأخلاقيات والقيم الإنسانية. ولهذا السبب سنرى مدى تذبذب المواقف الدولية الرسمية، كسمة عامة بين الإدارة الأميركية وبين الدول الكبرى.

في مرحلة الحصار، الذي فرضته قرارات مجلس الأمن على العراق، أخذت الأنظمة السياسية لبعض الدول الكبرى فرصة كافية لتخمين مدى استفادتها الاقتصادية في حالتيْ تأييد الحق العراقي في فكّ الحصار أو إدامته.

ولأن الدول الكبرى تدرك حجم المخاطر التي يرتبها استيلاء الأميركيين على كل مصادر الطاقة في الوطن العربي، وقفت في الطرف الممانع للمشروع العسكري الأميركي في كواليس مجلس الأمن وجلساته العلنية. كانت تلك الدول تراهن على أنها قد تلجم الجموح الأميركي من القيام بعمل منفرد ضد العراق، لأن الاستفراد قد يصل إلى حدود استثارة مخاوف الشارع الأميركي من جهة، وإلى حدود استثارة غضب الشارع العالمي من جهة أخرى.

لم تكن تلك الدول تصدِّق أن الجموح الأميركي قد بلغ حدود الشطط، خاصة، وقد تبيَّن –فيما بعد- أن الدراسات التي وُضعت لسيناريو الحرب والتي أكدت للقيادة السياسية الأميركية أنها سوف تكون أقل كلفة وأقل خطورة وأقل خسائر، وقد عزَّزت تقارير مخابرات العدو الصهيوني قناعات كل من وزارة الخارجية الأميركية، والبنتاجون. كما أدَّت الغرض نفسه ادعاءات تيارات وقوى المعارضة العراقية المجنَّدة والمرتبطة مع أجهزة الأمن والاستخبارات الأميركية. وقد تبيَّن –بعد احتلال العراق- حقيقة مراهنة الإدارة الأميركية على معلومات بعض أوساط المعارضة العراقية، وتبيَّن خداع تلك المعلومات، وكذبها، وهو السبب الذي أوقع قوات الاحتلال بأكثر من مأزق.

كانت الإدارة الأميركية حريصة، من أجل طمأنة جنودها والرأي العام الأميركي، أن تحصل على قرار من مجلس الأمن تؤمِّن به شرعية دولية لعدوانها. لكنها في الوقت ذاته لم تكن مطمئنة إلى إمكانية الحصول عليه، لأن الأطراف الدولية لن تدخل الحرب الجديدة بالحماسة ذاتها التي دخلت فيها إلى عدوان العام 1991م، لعدة أسباب، من أهمها: بأن أميركا»كانت قد تفرَّدت بالمنطقة ومواردها«، وهي »لا ترى في الخطر العراقي ما تراه الولايات المتحدة«. لذا قادت الولايات المتحدة –بعد أن نفد صبرها من الحصول على غطاء شرعي دولي- تحالفاً من عدد من الدول التي أعلنت صراحة مشاركتها في العدوان، وبعضها الآخر كانت مواقفه عائمة وغائمة في الظاهر ولكنها قدَّمت خدمات فعلية وتسهيلات كبرى من حيث الدعم الإعلامي واللوجستي وتسهيلات لمرور القوات الغازية([10]).

لم تؤثر المواقف الدولية الرسمية الممانعة للعدوان، ولا المواقف الشعبية والسياسية الدولية والعربية في التأثير على مواقف الإدارة الأميركية. لذا دخلت أميركا وبريطانيا الحرب ضد العراق تحت دخان ذريعتين قامتا بافتعالهما، ولكنهما خادعتين، لأنهما ليستا في أساس أهدافهما، وهما:

-تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل التي تدعي أن العراق يمتلكها. وقد تبيَّن أن هذه الذريعة واهية، وقد جرى تضخيمها من أجل تبرير العدوان، ونسَّقت الإدارة الأميركية مع الحكومة البريطانية من أجل تضخيم هذا الملف.

-إسقاط النظام السياسي في العراق، الذي تدَّعي أنه يهدد جيرانه، والعالم، ولذلك رفعت شعار تحرير العراق وإعادة الديموقراطية إليه.

د-تمهيد الساحة الإقليمية للحصول على تسهيلات لوجستية وسياسية وأمنية:ونقصد، هنا، الدولتين التركية والإيرانية.

حالت تعقيدات العلاقة المتوترة بين الدولة التركية والحركة الانفصالية لإكراد العراق، دون استجابة الحكومة التركية لمطالب الإدارة الأميركية –بتأمين تسهيلات لوجستية لقواتها العسكرية- إلاَّ بما يضمن لها الحصول على صلاحيات تخدم صراعها مع أكراد العراق. فخلق الموقف التركي إرباكاً للخطة العسكرية الأميركية تمظهر في أحرج الأوقات وأدقها. وأضفت تأثيراً سلبياً على تحرك قواتها، دفع بالقيادة الأميركية إلى تغيير خطتها انتظاراً لوصول قواتها العسكرية التي كانت قد أنزلتها على الأراضي التركية تمهيداً لنقلها إلى شمال العراق.

وفي المقابل، توصَّل الأميركيون إلى نتائج لصالحهم في المفاوضات السرية التي دارت بينهم وبين الحكومة الإيرانية. تلك النتائج لم ينكشف النقاب عنها بشكل واضح إلاَّ بعد احتلال العراق. ومن تلك النتائج أنها أدَّت إلى تسوية لتبادل المصالح بين الطرفين، بحيث تتَّخذ إيران موقفاً محايداً من العدوان على العراق، وتقبض ثمنه حصة في الخريطة السياسية العراقية بعد الاحتلال. وإذا عدنا إلى المعلومات التي انكشف النقاب عنها، نرى بوضوح التنسيق المتكامل بين الطرفين([11]).

يتعارض موقف الحكومة الإيرانية مع مبادئها المعلَنَة من كل قوى الإمبريالية، خاصة منها الإمبريالية الجديدة التي تقودها الإدارة الأميركية. وراحت تلك الحكومة –بدلاً من محاربة الإمبريالية- تقوم بالتنسيق معها بمختلف الوسائل والسبل([12]).

ثانياً: الإدارة الأميركية تقرر القيام بالعدوان من دون غطاء شرعي دولي أو إنساني :

وصلت ثقة مسؤولي الإدارة الأميركية بأنفسهم درجة من الجنون، توهموا معها أن قدراتهم العسكرية الهائلة تساعدهم على حكم العالم، وتفاقمت درجة الثقة في قوَّتهم، وقدرتهم على غزو العراق، عندما صوَّرت لهم بعض تيارات المعارضة العراقية في الخارج، أوهاماً تستند إلى أن الشعب العراق ينتظر مخلِّصاً لهم من معاناتهم من النظام السياسي الذي يتولى حكم العراق.

على أساس تلك العوامل، كانت مواقف الإدارة السياسية تتَّسم بالتسرع، وهو من ضمن المخطط الجاهز للتنفيذ؛ وراحت تفصح عن عنجهية إمبراطورية عمَّقتها انتصاراتها في حرب البلقان وأفغانستان. لهذه الأسباب أخذت تتصلَّب في وجه كل الدعوات الدولية الممانعة، يشجعها على ذلك أنها ستضع الجميع أمام الأمر الواقع بعد انتصارها في الحرب. بحيث سيرضخ كل من كان ممانعاً لإرادتها، ويبارك لها ما حصلت عليه، ويغفر لها تجاوزاتها لكل الشرعيات القانونية الدولية ولكل أخلاقيات القيم الإنسانية. أما من كان ممانعاً للإدارة الأميركية فهم:

1-بعض الدول الكبرى ذات التأثير في مجلس الأمن.

2-معظم الدول المشاركة في الهيئة العامة للأمم المتحدة.

3-اللجنة الدولية المكلَّفة بالتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، التي لم تكن تقاريرها قد حسمت الجدل الدائر حول وجود الأسلحة.

4-الشارع الأميركي من خلال التظاهرات الكبرى التي شهدتها بعض المدن الأميركية، لأن الذين أبدوا معارضتهم للحرب يعرفون أن نتائجها لن تصب في مصلحة بلادهم، بل هي من أجل توسيع مصالح الشركات الأميركية الكبرى.

5-الشارع البريطاني من خلال التظاهرات المليونية التي شهدتها شوارع لندن، وهي التي تعيد أسباب مشاركة بلادهم في الحرب إلى »ذيلية« سياسية للإدارة الأميركية، يمارسها رئيس الحكومة البريطانية.

6-حركة الشارع في الدول التي تؤيد حكوماتها العدوان على العراق، كمثل إيطاليا وإسبانيا وأوستراليا…

7-الكنائس الأنجليكانية، في كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، أي في قلب الدولتين اللتين قررتا خوض الحرب ضد العراق.

8-كان من أبرز المواقف وأكثرها جرأة، موقف البابا في الفاتيكان الذي عزم على القيام بزيارة يلقي فيها خطبة أمام مجلس الأمن يحذر فيها من مغبة سياسة العدوان.

9-معظم الشعوب في معظم دول العالم، التي سارت في التظاهرات الحاشدة التي شهدتها معظم عواصم العالم ومدنه.

إنه التفكير اللا إنساني الذي يسيطر على جيوب الشركات الكبرى وعقولهم، وإنه سمة العنجهية الإمبراطورية التي ميَّزت مواقف المسؤولين في الإدارة الأميركية. وقد أسهم الجنوح الرسالي الديني، الذي زرعته اليهودية الأصولية في أذهان بعض المسؤولين الأميركيين في زيادة نسبة الجنون بالعظمة، وكان أكثر المسؤولين انفعالاً بتلك الأوهام الرئيس الأميركي، جورج بوش الإبن، الذي راح يوهم نفسه بأنه مخلص للبشرية بعد أن اصطفته الإرادة الإلهية للقيام بذلك الدور.

لقد قرَّرت الإدارة الأميركية أن تدخل الحرب ضد العراق على أنقاض الشرعية الدولية وأشلاء الديموقراطية المزعومة وعلى نحر للقيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، وجرى كل هذا على الرغم من أن بعض تيارات الإدارة كانت حريصة على تأمين ذلك الغطاء، الذي على الأقل يعطي دفعاً للجنود الأميركيين بأنهم يخوضون معركة في القتال وليس معركة للقتل([13]).

ثالثاً: الوقائع الأولى للعدوان العسكري على العراق ونتائجه

عاش العالم لحظة سادت فيها التكنهات حول وقوع الحرب ضد العراق أو استبعاد وقوعها. وكانت مراهنات المستبعدين تستند إلى أن أميركا لا يمكنها أن تغفل غطاء الشرعية الدولية في ظل ممانعات الدول الكبرى، والرأي العام الدولي في ظل ممانعة الشارع العالمي، وإرادة الأخلاقيات الإنسانية في ظل ممانعة الكنائس المسيحية بشكل أساسي.

أما المراهنون على حتمية وقوع الحرب، فلم يسندوا أسبابهم إلى أي شيء إلاَّ إلى العدوان الرأسمالي للشركات الصناعية الكبرى التي توجِّه سياسة الإدارتين الأميركية والبريطانية، وبالتالي دور التيار الصهيوني الرأسمالي والتوراتي.

وابتدأ العدوان، في ليل العشرين من آذار / مارس من العام 2003م. وكانت استراتيجية العدوان تقوم على قاعدة لعبة الشطرنج، أي أن يقوم اللاعبون الأميركيون بقتل الملك في العراق، فيحسمون المعركة من دون حرب. لذا توجَّهت قوة صواريخهم وغزارتها إلى موقع حددت المخابرات الأميركية أن رئيس جمهورية العراق كان موجوداً فيه.

كانت تلك العملية تمثل الطلقة الأولى التي أعلنت فيها الإدارة الأميركية بدء العدوان العسكري. وكانت كاميرات أجهزة الإعلام التابعة للمخابرات الأميركية أو الملتزمة بتعليماتها وأوامرها جاهزة لتسجيل أكبر عدوان عرفته البشرية.

في أيام الاجتياح الأولى كانت الآلة العسكرية الأميركية نشطة، حتى وصلت إلى أبواب المدن العراقية بسرعة، لكن تلك المدن استعصت على الغزاة، وعصيانها كذَّب الخديعة التي أوقعت بعض قوى المعارضة العراقية المخابرات الأميركية فيها. ولكن الغزاة انتظروا لعلَّ، ما كانوا يحسبون أن الذين ينتظرونهم، قد جهزوا الورود لاستقبالهم، لكنهم لا يزالون تحت وطأة الخوف من النظام!! هكذا كانوا يتوهَّمون.

مرَّت الأيام الأولى، وإذا بالجيش، والحرس الجمهوري، والحزب، والشعب يشاركون بالقتال على شتى الجبهات. وتكاثرت عوائق المقاومة العراقية وحواجزها في وجه الغزاة لامتصاص الصدمة الأولى، وتكبيدهم أكثر ما يمكن من الخسائر. وهذا ما أخذ يربك الخطة العسكرية الأميركية الموضوعة، وظهر هذا الإرباك على الإعلام العسكري الأميركي. وتكاثرت التبريرات الأميركية والأكاذيب. لكنها لم تكن واضحة إلاَّ عندما أعلنت القيادة الأميركية أنها سوف تؤجل الزحف باتجاه بغداد أسبوعين، تكون في خلالهما قد استقدمت الفرقة الأميركية الثالثة من شمال العراق، لأنه كما اتَّضح لها أن القوات الأميركية – البريطانية التي دخلت من الحدود الكويتية ليست كافية.

أخذت المقاومة العراقية، وصمود المقاتلين العراقيين، يربكان القادة العسكريين الأميركيين، بحيث انعكس الإرباك على قرارات الإدارة السياسية الأميركية. وأخذت المراهنات على إعلان بدء فشل العدوان الأميركي تلقي بظلالها على مواقف الدول الكبرى الممانعة، وكذلك الأمر على الشارع العالمي الممانع أيضاً. وكانت أشد وطأة على مراكز القرار الأميركي، من شركات ومسؤولين في الإدارتين السياسية والعسكرية.

لكن الفشل كان ممنوعاً على الجيش الأميركي، فكثير من المتغيرات السلبية تُثقِل النظام الرأسمالي العالمي، وليس النظام الأمريكي فحسب، نتيجة ذلك الفشل. فوجدت الإدارة الأميركية نفسها أمام مأزق استثنائي فعليها أن تتخذ قراراً استثنائياً. وكان على الشركاء من دول الرأسمال العالمي، حتى أولئك الذين وقفوا ضد الحرب، أن يحتاطوا من انعكاسات الفشل على عضو كبير في ناديهم.

وجدت الدول الكبرى الممانعة للحرب الأميركية نفسها أمام مأزق، حتى ولو كان أقل وطأة عليها، بأنها لو وقفت على الحياد وأصيب العدوان الأميركي بالفشل، فإنها سوف تنال حصتها من عواقبه، التي سوف يكون أقلها أنها سوف تفقد هيبتها أمام دول وشعوب العالم التي تناضل من أجل التحرر الاقتصادي والسياسي. لهذا أعلنت أنها لن تسمح بفشل الحرب الأميركية على العراق، ولن تكون سعيدة بنتائج فشلها. ولذلك بادر رؤساء، ووزراء خارجية، ومسؤولين آخرين، في تلك الدول بالادلاء بتصريحات تتضمَّن هجوماً على القيادة العراقية، لتشكِّل –بذلك- غطاءً سياسياً للمعتدين باستخدام أسلحة محرَّمة دولياً، ولامتصاص الرفض الشعبي الدولي للعدوان(V).

ولما نشطت حركة الديبلوماسية الأميركية باتجاه الدول الكبرى الممانعة، لم تبذل جهداً زائداً في إقناعها بأنها تتحمَّل مسؤولية في فشل الغزو الأميركي. ونتيجة لتلك الحركة صدر –كما نخمِّن- قرار دولي سري اتَّخذته الإدارة الأميركية، بموافقة من الدول الكبرى، فكان لمثل هذا القرار آثار بالغة الأهمية على مسار العدوان العسكري على العراق.

كان من مظاهر المتغيرات، التي فرضها القرار السري المشترك بين الولايات المتحدة الأميركية وتلك الدول، أن قرار تأجيل الزحف باتجاه العاصمة بغداد، الذي أعلنته القيادة العسكرية بعد مرور أكثر من أسبوعين على بدء العدوان، قد طُوي من دون إعلان، وتمظهر التغيير فيه بإنزال مفاجئ للقوات الأميركية في مطار صدام الدولي، بعد يومين من إعلان التأجيل.

لا شك في أنه قد حصل تطور جديد في قرار الدول الكبرى الممانعة للحرب على صعيد إنقاذ أميركا من الفشل. فما هو العامل الجديد الذي طرأ واتخذت –بناءً عليه- الدول الكبرى قراراً أخذ يغيِّر في وقائع ومسارات العدوان العسكري الأميركي – البريطاني؟ فماذا حصل، في الكواليس السرية الدولية؟

نرى أن النقاب لن ينكشف عنها بالكامل في المدى المنظور، وإن ما نستطيع استنتاجه هو أن شيئاً مهماً قد حصل، كانت نتائجه ظاهرة للعيان في تغيير مسار الخطط العسكرية، ووضع عوامل جديدة تمنع الفشل عن الأميركيين في العراق.

لا شك بأن قراراً استثنائياً قد تم الاتفاق عليه بين الدول الكبرى لمنع الفشل، وقد ظهرت آثار هذا القرار من خلال إنزال القوات الأميركية في مطار صدام الدولي، وهناك حصلت العديد من المعارك الدامية التي أنزلت بها القوات العراقية مئات الإصابات في الجيش الأميركي، هذا بالإضافة ما سبق الإنزال من غارات وحشية للطيران والصواريخ العابرة على العاصمة العراقية طوال ثلاثة أسابيع، لم تتوقف فيها الغارات الأميركية عن القصف والتدمير.

وتتالت الخطوات والعوامل –منذ معارك المطار- وفي نهايتها دخل الغزاة إلى بغداد، بما جعلها تبدو في الظاهر كأنها استسلمت أمامهم بشكل سريع من دون مقاومة أو مظاهر المقاومة التي شهدتها المدن العراقية الأخرى، راح البعض يصفها بشتى الأوصاف السلبية.

تردَّد الكثير من التكهنات لتجلي الغموض عما حصل، وكان من أهمها تسليط الأضواء على عامليْ الخيانة في الجيش العراقي، واستخدام سلاح غير تقليدي في معركة المطار(V). وقد أكَّدت التقارير التي سرَّبتها بعض أجهزة المخابرات الغربية والشرقية أن الأميركيين استخدموا ذلك السلاح. ولكن ما لم يتأكد –حتى الآن- هو حجمه وعدده ونوعيته ومقدار الخسائر التي أوقعها في صفوف القوات العراقية، والتي يقدرها البعض بأنها بلغت الآلاف من الشهداء. وقد يكون ما حصل هو ما دفع القيادة في العراق إلى اختصار المرحلة الأولى لمنع سقوط خسائر أكثر وأشد إيلاماً في صفوف القوات العراقية المدافعة، وأعطت الضوء الأخضر إلى الانتقال للمرحلة التالية، وهي مرحلة حرب التحرير الشعبية الطويلة المدى([14]). فراحت وسائل الإعلام المعادية تستثمر السرعة التي دخل بها الجيش الأميركي بغداد، وراحت تحرِّض على سلبيات تحسب أن نظام حزب البعث العربي الاشتراكي السياسي قد ارتكبها في العراق.

ومن أجل ذلك، فقأت المخابرات الأميركية كل العيون الإعلامية، التي يُشتم أنها قد تنقل وقائع وحقائق لا يريد الإعلام المعادي أن تنتشر وتُذاع، وعملت على إخضاع كل وسائل الإعلام للمراقبة، وبالتالي إلزامها بأن تنقل الصورة التي تشكل مدعاة للتحريض ضد النظام السياسي السابق، والهدف من ذلك، السيطرة النفسية على الشعب العراقي أولاً، وعلى الرأي العام العربي والعالمي ثانياً، وهذا ما يؤدي إلى توفير نصف الجهد في معركة تبرير الأهداف الأميركية وإضفاء المصداقية عليها. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلاَّ بديماغوجية تظهر مثالب الخصم وتكبير أخطائه، أو ابتكار أخطاء واختراعها.

مرَّت المراحل الأولى، وهي تُعدُّ بالأسابيع القليلة، سيطر فيه الإعلام الأميركي، بتواطؤ من بعض الإعلام العربي، وفيه كانت تبرز مسألتان، وهما:

-الأولى: تشويه صورة الصمود العراقي، وتصوير النظام السابق بالمهزوم وكأنه قام بخديعة شعب العراق ومؤيديه في الشارع العربي والعالمي. ولم يتورَّع الإعلام الأميركي عن تضخيم صور الخيانة، وبث الإشاعات عن هروب الرئيس صدام حسين إلى خارج العراق، إما بواسطة صفقة، وإما لأسباب أخرى، يمكن العودة إليها في مصادر المعلومات.

-الثانية: العمل من أجل تضخيم مظاهر ما اعتبرته أخطاء سياسية وأمنية، للنظام السياسي لحزب البعث، على قاعدة الإخراج التلفزيوني، وقامت بتوزيعها وتعميمها بشكل كثيف على وسائط الإعلام العالمية والعربية، التي كانت الأغلبية العظمى منها متواطئة، والبعض الآخر مضلَّلاً. وكانت الإدارة الأميركية ترمي من وراء اتِّخاذ هذا التدبير، مستفيدة من ربحها العسكري، تأمين هدفين متلازمين:

1-التعتيم على الأسباب التي روَّجتها الأوساط الإعلامية للإدارتين الأميركية والبريطانية حول امتلاك العراق أسلحة للدمار الشامل. ولأنها تعلم أن تلك المزاعم ليست صحيحة، فإنها عملت على إخفاء معالمها بإلهاء الرأي العام العالمي بمشاهدة مسرحيات تستأثر باهتمامات المزاج الشعبي وتؤثر فيه([15]).

2-الحصول على شرعية احتلالها من خلال تضخيم صورة، ما حسبته مآسٍ إنسانية صنعها النظام بشعبه. وروّجت وسائط الإعلام وأبرزت شرائط تصور مقابر جماعية، وسجوناً وسجناء صُوِّرت بالطريقة والتعليق لتؤدي دوراً إعلامياً هادفاً…

كانت أجهزة المخابرات الإعلامية، بالإضافة إلى إبراز إعلامي هادف، تعمل على التعتيم حول ما يجري في مدن العراق وقراه، وخاصة في بغداد، من أعمال شعبية عسكرية لم تنقطع منذ التاسع من نيسان من العام 2003م.

تكاثرت وعود الأميركيين للعراقيين بعصر يذوقون فيه طعم نظام جديد سوف يقومون بتأسيسه على قواعد الحرية والديموقراطية وتأمين فرص العمل، وزيادة المداخيل، وتأمين شتى أنواع الخدمات الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية.

وفي المقابل راحت الإدارة الأميركية تبشِّر الشركات الأميركية العملاقة، التي يشارك بملكيتها أو إدارتها عدد من مسؤولي الإدارة الحاكمة، بأن أبواب الثروة العراقية وفرص الاستثمار، والعمل في العراق، في ازدياد مستمر؛ وراحت تستدرج عروض الإعمار والبناء التي سوف تدر على تلك الشركات لبن العراق وترياقه.

كما راحت أبواق إعلام الشركات الرأسمالية الأميركية تمارس فعل الشماتة بشركات الدول الكبرى أو الصغرى التي لم تشارك في الحرب ضد العراق. وهذا ما دفع بعدد من الدول الكبرى إلى السعي من أجل عقد صفقات مقايضة مع الأميركي، الذي صوَّر نفسه على أنه منتصر، تحت صيغ إعادة صفاء العلاقات بين دول النادي الرأسمالي بعد أن عكَّرته المواقف المتباينة من الحرب ضد العراق.

وراح تحالف التيارات العراقية المعارضة يعدُّ نفسه للاستفراد بالمغانم التي سوف تدرها السلطة عليه عندما يصبح في مواقع المسؤولية.

لم تنته المرحلة، ذات العمر الذي لم يتجاوز الأسابيع القليلة، حتى قام جورج بوش الإبن –في أول شهر أيار / مايو، بإعلان انتهاء الحرب، وراح يغدق الوعود على القوات الأميركية التي شاركت في الحرب إلى الاستعداد للعودة بعد أن قاموا بالدفاع عن شرف أميركا وحمايتها من الإرهابيين!! والنظام السياسي في العراق كان من أهمهم.

أما نتائج العمليات العسكرية النظامية فكانت لصالح قوى العدوان، فراحت الإدارة الأميركية تصوِّر، أو هي كانت مقتنعة بالفعل، أنها أحرزت النصر النهائي. وبناء على تلك النتائج ظهرت العنجهية الأميركية والبريطانية بكل وجوهها القبيحة. وإذا ما قمنا بمراجعة الملف –ذي العلاقة- لوجدنا الصورة الميدانية كما صوَّرتها إحدى المقالات، كما يلي: »ارتفعت صيحات النصر بين صفوف (الأميركيين) وتعالت أصوات التشفي بينهم ضد العرب والمسلمين وضد الدول التي عارضت العدوان الأمريكي البريطاني. وإلى جانب هذا وذاك اندفع الغزاة نحو احتكار الغنيمة، ولم يتورعوا عن تهديد معارضيهم الأوروبيين بالحرمان من أي نصيب في تلك الغنيمة وبالانتقام من كل أولئك الخارجين عن طاعة البيت الأبيض.

وبموازاة كل ذلك.. أطلق العنان للنفخ بقوة وشجاعة وحنكة العسكريين الأمريكيين ووُضع العاجزون والخائفون منهم في مصاف الأبطال ونسجت حولهم الأساطير. وما هي إلا أيام قليلة حتى تحول المشهد البطولي الأمريكي البريطاني في العراق إلى كابوس بربري نهبت ودمرت خلاله آيات الحضارة العراقية الفريدة، وأهين فيه أبناء العراق وبناته.. في وقت يجرى فيه الحديث عن التحرير والإنقاذ والديمقراطية«([16]).


حسن خليل غريب

لبــنان في أيلول / سبتمبر 2003م
([1]) إن السياسة في التجارب الإمبراطورية السابقة للإمبراطورية الأميركية كان لا مجال لها خارج إطار الدولة، فالأعمال الحربية وغير الحربية كانت تكليف الدولة الأساس ويقع تحت مسؤوليتها الدستورية. لكن التجربة الأميركية توصلت إلى اختراع جديد هو »مؤسسة الدراسات السياسية والاستراتيجية«. وكانت بدايتها تأسيس »مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك«، الذي أنشيء في العام 1919م، والذي رعته عائلة (روكفلر)، ويرعى تلك المؤسسات –الآن- مجلس تحدد إطار عمله بأنه »متابعة الأوضاع الدولية وإثارة اهتمام الرأي العام الأميركي بها، وتأسيس موقع نفوذ يدعو إلى دور أميركي فاعل في القرار الدولي«. وتأتي إدامة دور تلك المؤسسات بعد الحرب العالمية الثانية إلى أن الفكر ضروري لتحصين المصالح الأميركية وترسيم مشاريع حمايتها، ولما كان المفكرون ينظرون أولاً إلى الجنوح نحو اليسار، والعسكريون بيروقراطيون كان لا بُدَّ من حماية المفكرين لكن عن طريق احتوائهم في مؤسسات، ثم توجيههم في مرحلة تالية، فكان الإطار الأمثل هو إطار المؤسسة الذي هو الأصلح في استقبال آلاف المؤهلين لصناعة التفكير وتوظيفهم وإغرائهم. ونتيجة لهذا المنطق لرأس المال الأميركي نشأت مئات المؤسسات التي تحمل أسماء أصحاب أكبر المصالح كمثل: روكفلر، وفورد، وراند، وكارنيجي… وكان من أهم وظائف تلك المؤسسات: اكتشاف ورصد ودراسة الفضاءات التي تخدم المصالح الكبرى. وإقامة علاقات تقارب مع دوائر القرار السياسي بما يضمن درجة من التوافق تسمح بتبادل المساعدة. ] محمد حسنين هيكل »صناعة القرار الأميركي الآن« المنشور في جريدة السفير: بيروت: العدد 9534: تاريخ 1/ 7/ 2003م[.

V إشارة إلى كتاب »صدام الحضارات« لمؤلفه صاموئيل هنتنجتون. وهذ الكتاب هو بالأصل مقال نشرته فصلية Foreign affairs في صيف العام 1993م، وأثار جدلاً واسعاً، ثم قام الكاتب بتطويرها وتحويلها إلى كتاب، مستفيداً من تعليقات الطلاب الذين كان يدربهم في حلقة دراسية –في جامعة هارفارد في سنتي 1994 و1995م- عن طبيعة عالم ما بعد الحرب الباردة. وقد صدر الكتاب في العام 1996م.

VV إشارة إلى كتاب »نهاية التاريخ« لمؤلفه فرنسيس فوكوياما. وهو بالأصل محاضرة ألقاها في جامعة شيكاغو خلال العامين 1998م و1999م، ونُشر على شكل مقال بتشجيع من رئيس تحرير مجلة The national interest. وتحوَّل –فيما بعد- إلى كتاب بعد أن أثار المقال جدلاً واسعاً.

([2]) جاء في خطاب أيزنهاور –الرئيس الأميركي الأسبق ودامت فترة رئاسته (1952م – 1960م)- تحذيرٌ من زيادة نفوذ المجموعة الصناعية العسكرية المالية السياسية والفكرية، وهو نفوذ غير مسبوق في التجربة الأميركية. ولهذا حذَّر من وصولها إلى موقع التأثير المعنوي والسياسي والعملي على القرار الأميركي. ]راجع محمد حسنين هيكل في مقالته »صناعة القرار الأميركي الآن«: م. س[.

([3]) في العام 2000م، وضعت منظمة »مشروع لقرن جديد «، وهي منظمة أميركية متطرفة، برنامجاً من أجل إعادة بناء الدفاعات الأمريكية، وهي دعوة إلى بناء »الأممية الأمريكية« الرامية إلى = =بسط السيطرة على الكرة الأرضية. كثيرون من الذين شاركوا في وضع تلك الأفكار، هم من غلاة الصقور الذين يتربعون على مناصب في الإدارة الحالية، ومن بينهم بول وولفوويتز، ريتشارد بيرل، جون بولتون، ايليوت كوهين، لويس ليبي، دوف سيخيم وستيفين كاربون، ومن بين هؤلاء يهود صهاينة وأمريكيون يتسمون بارتباطاتهم بالمصالح الإسرائيلية والصهيونية.

مجموعة أخرى من الذين يشغلون مناصب مهمة في حكومة الجمهوريين، كانت شديدة الارتباط بالشركات النفطية الكبرى. الرئيس نفسه كانت لديه شركة: بوش إكسبورتيشين؛ شيني كان عضوا في الهيئة الإدارية لشركة هاليبورتون التي حصلت على عقود يسيل لها اللعاب، في تعمير صناعة النفط العراقية؛ كوندوليزا رايس أتت من شيفرون؛ وزير التجارة كان رئيسا لشركة توم براون ولشركة شارب دريلينغ؛ وغيرهم كانوا مدراء تنفيذيين في شركتي اكسون وإنرون. البعض يشكون وآخرون يؤكدون بأنه تمّ التخطيط لهذه المغامرة الحربية استجابة لمصالح جيوب هؤلاء السادة.

] كمثل (مجلس العلاقات الخارجية) في نيويورك. وتقوم مراكز الأبحاث على قاعدة بناء مؤسسات تابعة للشركات الرأسمالية الأميركية الكبرى. وقد تأسست مئات منها –بعد الحرب العالمية الثانية- وحملت أسماء أصحاب أكبر المصالح، مثل: روكفلر، وفورد، وراند، وكارنيجي، وغيرهم. وأصبحت كل مؤسسة »شبه حكومة«، تمارس نشاطات غير محدودة في مجال التفكير الاستراتيجي، ورسم السياسات، ومتابعة الأزمات، وكتابة الأوراق، واقتراح الحلول. وقد وجد الجميع في صيغة المؤسسة تحقيقاً شديد الكفاءة لهدفين واضحين: الأول اكتشاف ورصد الفضاءات التي تريد المصالح الكبرى أن تعمل فيها وتتوسَّع وتزيد أرباحها. أما الثاني فهو إقامة علاقات صلة وقرب من دوائر القرار السياسي، ومتابعة مداخلها ومخارجها، بما يحقق درجة من التوافق تسمح بتبادل المساعدة وتعظيم الفائدة. ]راجع محمد حسنين هيكل في مقاله »صناعة القرار الأميركي الآن«، جريدة السفير: بيروت: العدد 9534، تاريخ 1/ 7/ 2003م[.

([4]) محمد حسنين هيكل في مقاله »القوات المسلحة في السياسة الأميركية«، المنشور في جريدة السفير: بيروت: العدد 9588: تاريخ 2/ 9/ 2003م، قال وزير الدفاع الأميركي أمام مجلس الأمن القومي الأميركي بين 14 و 15/ 9/ 2001م، ما يلي: أينما أدرنا البصر حولنا لا نجد هدفاً أنسب من العراق، لأنه يمتلك أسلحة دمار شامل يمكن أن تصل إلى الإرهابيين، ولأنه يقع في المنطقة الحيوية للمصالح الأميركية، و»فيه جوائز هائلة يمكن الاستيلاء عليها بأقل تضحيات متصوَّرَة«.

([5]) نقلاً عن هيكل في مقاله »القوات المسلحة في السياسة الأميركية!«: م. س. جاء في خطاب بوش المذكور حول العراق ما يلي: »إن الولايات المتحدة الأميركية لن تسمح للنظام الأشد خطورة في العالم أن يهددها بواسطة أسلحة الدمار الشامل التي يملكها ويطورها ويقدر على استخدامها«.

([6]) 4/9/2003 لندن ـ القدس العربي : ورد في تقرير سري، صادر عن وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون، أعدَّته هيئة الأركان المشتركة أن الرئيس الأمريكي قد صادق علي مجمل العمليات العسكرية وكلفة الحرب، في نهاية شهر آب (أغسطس) العام الماضي، أي قبل ثمانية اشهر من بداية سقوط القنابل علي العاصمة العراقية بغداد، وقبل أن تذهب واشنطن للأمم المتحدة بحثاً عن قرار ثانٍ يعطيها تفويضاً لغزو العراق.

([7]) نقلاً عن محمد حسنين هيكل في مقاله »القوات المسلحة في السياسة الأميركية!«: م. س، قال رامسفيلد –وزير الدفاع الأميركي- في اجتماع لرؤساء أركان الحرب للجيش الأميركي، بتاريخ 1/ 2/ 2002م- إن دول الإقليم الصديقة للولايات المتحدة سوف تكون جاهزة لما يُطلَب منها، على الرغم من أنها لن تكون مندفعة بالمقدار نفسه للعام 1991م، وهي سوف تقدِّم قواعدها وتسهيلاتها لأي عمل أميركي لكن من دون المشاركة في الجنود على الأرض.

\ أو ليس من المثير للاستغراب أن يشارك الآلاف من العراقيين في صفوف الإيرانيين في الحرب الإيرانية – العراقية؟! أو ليس من المثير للاستغراب أن يشارك العراقيون في العدوان الأميركي على العراق؟! وإذا أردنا أن ندعم استغرابنا بأمثلة فهي كثيرة. ومن الملفت للنظر أن يكتسب أمثال أولئك الحق بالديموقراطية من خلال مشاركتهم العدوانيين الخارجيين بالعدوان على أوطانهم، وكأن الحق الديموقراطي يشرِّع مبدأ الخيانة الوطنية.

([8]) نقلاً عن مقال محمد حسنين هيكل »القوات المسلحة في السياسة الأميركية!«: م. س. يقول رامسفيلد: »إن لدينا حلفاء داخل العراق نفسه، وربما يقاتل بعضهم معنا… مثل الأكراد الذين لهم شبه دول مستقلة… والمعارضة العراقية وأنصارها في الداخل… لكن المسألة هي حجم قدرتهم بالتحديد«. ويقوم رامسفيلد بتحديد ها على الشكل التالي: /15,000/ رجلاً من الحزب الديموقراطي الكردي، و/10,000/ رجلاً من الحزب الوطني الكردي، و/6,000/ رجلاً من قوات شيعية تابعة لجماعات معارضة، و/5,000/ رجلاً تابعة لأحزاب عراقية في المنفى.

([9]) »أما دمقرطة العراق التي اعتبرت مسوغا أساسيا للغزو الأمريكي ـ البريطاني.. فقد آلت إلى محاولة فرض العملاء واللصوص والنصابين ممثلين للشعب العراقي في مجلس الحكم والحكومة الأخيرين عند الحاكم الأمريكي، وآلت إلى بعث الطائفية والإثنية والإقليمية.. وبذلك تم الرجوع بالبلاد إلى الوراء إلى ما قبل سنة 1958 بل إلى ما قبل الحكم الملكي الهاشمي نفسه«. أشار إلى هذه المسألة مقال على الأنترنت، بتاريخ 25/ 9/ 2003م، تحت عنوان »مأزق المغامرة الأمريكية في العراق«، بقلم العربي الرحالي.

([10]) راجع محمد حسنين هيكل في مقاله »القوات المسلحة في السياسة الأميركية«، م. س.

([11]) راجع حسن صبرا: »خميني العراق ضحية الفوضى الأميركية«(3 - 5): مجلة الشراع: بيروت: العدد 1100، تاريخ 8/ 9/ 2003م. وفي افتتاحيته يذكر أهم أسس التنسيق الإيراني – الأميركي، ومنها: سكوت الأميركيين عن الملف النووي الإيراني، ومحاصرة منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة، والابتعاد عن إثارة المعارضة الإيرانية في الداخل الإيراني، وإعطاء حصة ملحوظة للتيارات السياسية الشيعية العراقية الموالية لإيران. وفي المقابل تلتزم الحكومة الإيرانية بتأييد مجلس الحكم الانتقالي من خلال المشاركة فيه ومبايعته والاعتراف به. كما تلتزم إيران بعدم تأييد أو تسهيل أية أعمال مسلَّحة ضد قوات الاحتلال في العراق.

([12]) جاء في موقف الشيخ صبحي الطفيلي حول تنسيق الحكومة الإيرانية مع أميركا في العراق، أنه بدلاً من أن تقف ضد العدوان الأميركي، نراها تقف مع »مجلس الحكم الانتقالي في العراق، أي مع السلطة الأميركية«. ]جريدة السفير: بيروت: العدد 9594، تاريخ 9/ 9/ 2003م[.

([13]) جاء في مقال محمد حسنين هيكل »القوات المسلحة في السياسة الأميركية«، حول المخاوف من غياب غطاء شرعي وقانوني عن الحرب من أن يقع الجنود الأميركيون تحت عبء ضغط أخلاقي. وكان كولن باول –وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية- هو الذي قاد تلك الحملة تحت الذرائع التالية: »إن القوة الأميركية، دائماً، في خدمة مبدأ. وهذا المبدأ يلزمه غطاء قانوني وغطاء أخلاقي«، وبدونهما يتحول العمل العسكري من قتال إلى مجرد قتل، وفيه »لا يختلف جنرال على كتفه أربعة نجوم عن مرتزق يحمل في يده سكيناً«. وفي العمل العسكري يجب التمييز بين »أن يكون المحارب مقاتلاً، وبين أن يكون قاتلاً«.

V لقد صدرت تصريحات واضحة من بعض المسؤولين على أعلى المستويات في كل من روسيا وألمانيا وفرنسا. وصدر تصريح عن موسكو مفاده أن القيادة الروسية لا تريد أن تُمنى الولايات المتحدة بهزيمة في العراق. ]راجع جريدة النهار: بيروت: العدد 21570، 3/ 4/ 2003م[.

V راجع الملحق الرقم (43)، تحت عنوان »تقرير منسوب إلى مصادر روسية«.

([14]) من المفيد، هنا، أن ننقل بعضاً من أجزاء السيناريو الذي وضعه (إيمانويل والرشتاين) –أستاذ أبحاث في جامعة يال، وفيه يقول: كان صدام حسين يعلم أن قوة جيشه محدودة، وكان يعلم أنه سيخسر الحرب. ويتساءل الكاتب: إذا كنت صدام، فماذا ستفعل في حالة كهذه؟ ليجيب بدوره: عليك التأكد من نجاة أكبر قدر ممكن من المقاتلين الشرسين، وتنسحب من المعركة النظامية في الوقت المناسب، وتبدأ حرب عصابات تستهدف أولاً الجنود الأميركيين وثانياً المتعاونين معهم. وتنتظر تآكل الموقف الأميركي من جراء الخسارة التدريجية في أرواح الجنود، وعلى عدم القدرة على إدارة الأمور في العراق، وثم تآكل الدعم الأميركي للعملية. ومن خلال تلك المقاومة ستختفي صورة صدام الديكاتور –كما صورته وسائل الإعلام الأميركية، وتحل مكانها صورة صدام المقاوم الوطني. ]راجع جريدة السفير، العدد 9565، تاريخ 6/ 8/ 2003م[.

ومن جانب آخر، يشير علي بلوط إلى تعميم من القيادة العراقية كانت قد وزَّعته، في تموز/ يوليو من العام 2002م، يتضمَّن تحديد إجراءات يمكن تطبيقها في الحالة التي تحتل فيها القوات الأميركية = =العراق. والغاية من تلك الإجراءات هي أن يستعيد العراقيون حالة التوازن بين قوتهم وقوات الاحتلال، من خلال اللجوء إلى تكتيكات المقاومة الشعبية، أي ممارسة حرب العصابات. ويشير التقرير المذكور إلى أن صدام حسين عمل طوال أربع سنوات لتكييف القدرات العسكرية العراقية مع حرب العصابات. ]راجع، علي بلوط: »خطة صدام حسين لما بعد الحرب«(20 - 21): مجلة الشراع: بيروت: العدد 1100، تاريخ 8/ 9/ 2003م[.

([15]) أولى أصحاب مشروع »القرن الأميركي الجديد«، ومن أهمهم: (تشيني، رامسفيلد، ريتشارد بيرل، بول ولفووتيز، وليم كريستول…)، الإعلام اهتماماً كبيراً في العدوان على العراق، وقد جاء في إحدى توصيات أصحاب المشروع –كما أوردته جريدة القدس العربي (أواسط تموز / يوليو 2003م)- ما يلي: من الضروري أن تركز أجهزة الإعلام، وخاصة الفضائيات وكُتّاب المقالات والتعليقات، على الموبقات والجرائم التي ارتكبها نظام صدام حسين، بشكل يومي، وتكرار التعليق على المقابر الجماعية وضحايا الأسلحة الكيماوية، وعلى أحداث القتل والاعدامات والتحكم الفردي بمقدرات العراق، دون نسيان الحديث عن القصور الفخمة والبذخ والاسراف، وذلك من أجل صرف النظر عن الاحتلال الأميركي.

([16]) أشار إلى هذه المسألة مقال على الأنترنت، بتاريخ 25/ 9/ 2003م، تحت عنوان »مأزق المغامرة الأمريكية في العراق«، بقلم العربي الرحالي.



الاربعاء 16 ربيع الاول 1425 / 5 آيار 2004

كتاب المقاومة الوطنية العراقية 5

بقلم : حسن خليل غريب
الفصل الرابع

موقع الفكر المقاوم في استراتيجية حزب البعث


إذا كانت المقاومة الشعبية المسلحة تختصر مساحة الفراغ بين النصر والهزيمة، فإلى أي مدى أسهمت تجربة المقاومة الشعبية العراقية –الآن- التي يطبقها حزب البعث العربي الاشتراكي مع روافده من التنظيمات الأخرى، في اختصار المسافة بين النصر الأميركي العسكري، وانسحاب القوى النظامية العراقية من حرب المواقع ؟

يستند الحزب في استراتيجيته للتحرير إلى منظور حرب التحرير الشعبية، وقد وضع في منطلقاته الأولى مهمة التحرير من الاستعمار والصهيونية هدفاً أساسياً لن تتحقق شعاراته في الوحدة العربية والاشتراكية إلا بتحرير أقطار الأمة العربية من هيمنة تلك القوى العسكرية والاقتصادية.

قال مؤسس الحزب، في معرض موقفه من الصراع العربي الصهيوني –قبل معارك العام 1948م- في فلسطين:»لا تنتظرنَّ المعجزة، إن فلسطين لن تحررها الحكومات، بل العمل الشعبي المسلَّح«([1])، وقال –أيضاً- »أمتي موجودة حيث يحمل أبناؤها السلاح«. ومارس الحزب أسلوب العمل الشعبي المسلَّح –تطبيقاً لنظريته- في عدة من المحطات التاريخية، وكان من أهمها:

-مشاركة قيادة الحزب(])، وقواعده، في حرب فلسطين من العام 1948م، وللحزب شهداء سقطوا في أثناء مواجهة العدوان الصهيوني في تلك المرحلة([2]).

قامت تلك المشاركة على أساس أن الحزب لا يثق بقدرة الأنظمة على تحرير فلسطين. ولهذا أسهم الحزب في النضالات التالية:

منذ الستينات، وبعد أن انطلقت أول ثورة فلسطينية مسلحة، بتاريخ 1/ 1/ 1965م، كان لحزب البعث دور الريادة في احتضان تلك الثورة ومساعدتها بالإعلام والتبرعات والانخراط في صفوفها([3]). كما أصدر الحزب عدة بيانات تأييد وتبشير بالعمل الفدائي، وكانت مواقفه تتلخص بما يلي:

- عجز الأنظمة عن استرداد فلسطين. فالكفاح الشعبي المسلح هو الطريق الرئيس لاستردادها.

- إنتقاد من يدَّعون الحرص على فلسطين، والذين لا يجرؤن على الإشارة إلى مجهود »العاصفة«.

- النضال الفلسطيني هو على أرض فلسطين وليس في المؤتمرات. ويُعدُّ عمل »العاصفة« وأسلوبها في الكفاح المسلح هو ما يجب على العرب أن يأخذوا به([4]).

رأى الحزب الجوانب الإيجابية في المقاومة، ومن أهم تلك الإيجابيات هي منازلتها للاستعمار والصهيونية في الساحة العربية المركزية التي هي فلسطين المحتلة، وبأسلوب الكفاح المسلح. وبذلك غدت هوية المقاومة الفلسطينية هوية قومية »تطل بها الثورة العربية على العالم كخلاصة للقضية العربية في صراعها مع الاستعمار والصهيونية«([5]). ولما بدا أن الثورة الفتية تستند إلى منطلقات قطرية، وخوفاً من أن تتقوقع في داخل الأسوار القطرية الفلسطينية، أسهم الحزب في تأسيس فصيل قومي، في مطلع نيسان / أبريل من العام 1969م، وأطلق عليه اسم جبهة التحرير العربية. والتي حددت منطلقاتها القومية، المستندة إلى عمق فكري، وفيها عبَّرت عن الترابط الوثيق بين النضال المسلَّح من أجل فلسطين والنضال الجماهيري العربي من أجل الوحدة والتحرر والنهضة الحضارية، وقد نصَّت مقدمة بيانها التأسيسي على أن: »فلسطين طريق الوحدة والوحدة طريق فلسطين«([6]).

واستناداً إلى أن الحزب حمل »أمانة تاريخية، هي أمانة النهوض بالأمة وتحقيق وحدتها وتحرير أرضها المغتصبَة«([7])، وللدلالة على قومية المعركة استندت جبهة التحرير العربية في هيكلة تنظيمها ليس على الشباب الفلسطيني فحسب وإنما على شباب حزب البعث العربي الاشتراكي بتنظيماته القومية أيضاً، ومن المعروف أن تنظيمات الحزب منتشرة في معظم الأقطار العربية. وكان نشاط الجبهة بارزاً في أحداث الأردن (1970 - 1971)، وكذلك في صد الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان. وكان من أهم مهمات الجبهة أن لا تكون بديلاً لأحد، ولكن أن تعمل جاهدة في رص صفوف فصائل المقاومة الفلسطينية([8]).

بالعودة إلى أرشيف جبهة التحرير العربية تؤكد أنها قامت بواجبها في قتال العدو الصهيوني منذ إعلان تأسيسها. وأعلنت في مبادئها أنها »ذات طابع جبهوي وتركيب قومي عربي وفكر ثوري تقدمي«. وقد نفذَّ مقاتلو الجبهة في داخل الأرض الفلسطينية المحتلة عدداً من العمليات الفدائية الانتحارية، كمثل عملية كفار يوفال، وكفار جلعادي، ومسكاف عام. وكان التركيب التنظيمي للجبهة تركيباً قومياً، بحيث ضمت قيادتها مناضلين عرب من أقطار عربية عدة، وكذلك كان وضع المنتسبين إلى صفوفها([9]).

وعلى مسار آخر، كانت لحزب البعث في لبنان، منذ العام 1969م، تجربة موازية لتجربته في تأسيس جبهة التحرير العربية، وهي البدء بإعداد البعثيين بتدريبهم على استعمال السلاح لبناء أول تجربة للمقاومة الشعبية في جنوب لبنان، وكان نموذجها بناء قوى شعبية مقاتلة في القرى المحاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة. وهكذا استدعت التجربة عدة سنوات، كان من أهم نماذجها تجربتيْ الطيبة وكفركلا، وفيهما حصلت عدة مواجهات بين جيش العدو الصهيوني وبين المقاتلين البعثيين. وقد أقلقت تلك التجربة قيادة جيش العدو، وقد عمل على إحباطها، ولهذا السبب شنَّت قوات من الكومندوس الصهيوني، في العام 1975م، عدة هجمات على القريتين، وسقط نتيجة المواجهة عدد من الشهداء البعثيين([10]).

وللتدليل على أهمية تلك التجربة، صرَّح السيد موسى الصدر، في العام 1976م، بعد أن انكشف قيام »أفواج المقاومة اللبنانية« التي يقودها، قائلاً: إنني أريد أن أبني تجربة في جنوب لبنان كمثل تجربة كفركلا والطيبة([11]).

وبمثل تلك الشواهد التاريخية، قارب حزب البعث العربي الاشتراكي بين رؤيته النظرية للنضال في سبيل القضية الفلسطينية وتجاربه العملية. وحمل أعضاء الحزب في لبنان السلاح، منذ العام 1975م، للدفاع عن الثورة الفلسطينية.

وتابع البعثيون دورهم في المقاومة، إلى جانب قوى وتشكيلات الحركة الوطنية اللبنانية، بعد احتلال العدو الصهيوني منطقة جنوبي الليطاني في العام 1978م. وهذا ما مارسوه، بعد احتلال جزء كبير من الأراضي اللبنانية من قبل القوات الصهيونية في العام 1982م، إلى جانب مجاميع القوى الوطنية، ونفَّذ مئات العمليات ضد القوات الصهيونية المحتلة وسقط له في مواجهتها عشرات الشهداء. وكان يمارس الحزب دوره تحت اسم »المقاومة الوطنية اللبنانية – قوات التحرير«.

واستناداً إلى كل ذلك، فقد أثبت حزب البعث دوره في نشر فكر المقاومة والترويج له، ومارس هذا الدور في شتى معارك المواجهة ضد القوات الصهيونية في فلسطين والأردن ولبنان.

أما علاقة منظمة الحزب في العراق، فهي علاقة مسيرة مستمرة في العمل المقاوم، فالعراقيون، وعلى رأسهم البعثيون، أسهموا في شتى جبهات المقاومة ضد العدو الصهيوني في لبنان وفلسطين والأردن، هذا بالإضافة إلى الإمكانيات المالية والتسليحية والسياسية التي كان نظام الحزب في العراق يقدمها للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.

وتدليلاً على إيمانه وقناعته بالدور الفعال للمقاومة، كان العراق –حتى في ظل الحصار الذي فرض من حوله، منذ العام 1991م- يقدم مساعدات نقدية فورية إلى صاحب البيت الفلسطيني الذي يتعرض للهدم، ولأسر الشهداء أيضاً، ومساعدة تفوقهما لكل من ينفذ عملية استشهادية(V). هذا السبب هو من بين عدة من الأسباب التي زادت حقد الصهيونية ضد النظام السياسي في العراق.

استناداً إلى كل ما سبق، ما هو موقع الفكر المقاوم في استراتيجية منظمة الحزب في العراق عندما تأكدت نوايا الأمريكيين في غزو العراق ؟

بداية لا بُدَّ من أن نقف أمام مسألة قد لا يدركها آخرون، أو أنها لا تلفت انتباههم، وهي أن حزب البعث ليس حزباً للسلطة، بل هو حزب الثورة والتغيير نحو الأفضل، والسلطة هي إحدى وسائله النضالية لتحقيق أهدافه في الوحدة العربية والحرية والاشتراكية؛ تلك الأهداف التي تُخرِج الأمة العربية من حالة السيطرة الاستعمارية والتخلف إلى الاستقلال والحرية، ليكون للأمة دورها الإنساني جنباً إلى جنب مع الأمم الحرَّة، وليس تابعاً لقوى الاستعمار العالمي. فوجود الحزب متعلق بوجود الثورة لتحقيق أهدافه، وليس مرتهناً للسلطة. فلتغب السلطة إذا اقتضى الأمر؛ ولكن الأساس أن يستمر الحزب والثورة ضد التبعية للأجنبي والتخلف والتشرذم. واستناداً إلى تلك القاعدة الفكرية الاستراتيجية كان السيناريو الذي وضعته قيادة الحزب في العراق – والذي تأكَّدت حقيقته من خلال الكثير من تفاصيل ووقائع العمليات الفدائية التي يقودها- في سبيل مواجهة مع أحدث قوة عسكرية في العالم المعاصر.

وتأكيداً على إيمانه بجدوى المقاومة الشعبية المسلَّحة وممارسته لها وتخطيطه لعملها، فقد أعدَّ صدام حسين الأمين العام لحزب البعث نفسه للشهادة([12])، كما أعدَّ أولاده وأحفاده لمواجهة مثل هذا الاحتمال، وقد برهنوا على إيمانهم بالفعل([13]).

حسن خليل غريب

لبــنان في أيلول / سبتمبر 2003م


--------------------------------------------------------------------------------

([1]) ميشيل عفلق: الكتابات الكاملة (ج 1): دار الحرية للطباعة: بغداد: 1987م: ص 202.

] شارك ميشيل عفلق، الأمين العام للحزب، وصلاح الدين البيطار عضو القيادة القومية، في المعارك التي دارت على أرض فلسطين، في العام 1948م.

([2]) من شهداء البعث الذين سقطوا في فلسطين: مأمون البيطار، محمد جديد، فتحي الأتاسي، ومحمد صقال. راجع نضال البعث (ج1) : دار الطليعة: بيروت: 1976: ط2: ص 244.

([3]) راجع نضال البعث (ج 11) : دار الطليعة: بيروت: 1976: ط2: صص 11 و182 – 184.

([4]) م. ن: ص ص 182- 184.

([5]) ميشيل عفلق: الكتابات الكاملة (ج 3): دار الحرية للطباعة: بغداد: 1987م: ص 134.

([6]) الكيالي: موسوعة السياسة (2): المؤسسة العربية للدراسات: بيروت: 1981: ط1: ص 33.

([7]) ميشيل عفلق: الكتابات الكاملة (ج 3): م. س: ص 136. تاريخ 7/ 4/ 1977م.

([8]) الكيالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة (2): م. س: ص 33.

([9]) الكيالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة (2): م. س: ص 33.

([10]) سقط، في أول هجوم صهيوني على قرية الطيبة في 1/ 1/ 1975م، ثلاثة شهداء للحزب، وهم: علي وعبد الله وفلاح شرف الدين. أما في كفركلا، التي تعرضت لهجومين صهيونيين في تموز / يوليو و27/ 11/ 1975م، فقد سقط عضو قيادة منطقة الجنوب للحزب، شهيداً في المعركة الأخيرة، وهو الشهيد عبد الأمير حلاوي.

([11]) حسين شرف الدين: الإمام السيد موسى الصدر: دار الأرقم: بيروت: 1996م: ص 140.

V أشار ديك تشيني –نائب الرئيس الأميركي- في آخر خطاب له، إلى أن من مبررات الحرب على العراق هو عداء النظام السياسي في العراق لأميركا من جانب، وتقديم القيادة العراقية مبلغ (25,000 $) إلى عائلة كل شهيد فلسطيني.

([12]) يقول في مقابلة تلفزيونية معه إن من مقتضيات شرف المسؤولية أن يدافع، الذي يتعرض للعدوان، عن بلده وأطفاله وشعبه. وأن يكون مستعداً من أجل الشهادة في سبيلهم. ] راجع نص المقابلة التلفزيونية، التي أجرتها مراسلة شبكة (سي بي إس) الأميركية، مع صدام حسين في أوائل شهر آذار / مارس من العام 2003م. [.

([13]) بتاريخ 22/ 7/ 2003م، وفي معركة شرسة دامت ثلاث ساعات واجه عدي وقصي نجلا صدام حسين وحفيده مصطفى البالغ من العمر أربعة عشرة سنة، أكثر من مئتي جندي معززين بالدبابات والطائرات ، ولم يستسلموا بل قاتلوا ببسالة وقتلوا عدداً من جنود قوات الاحتلال، واستشهدوا. وقد نعاهم والدهم برسالة وجهها إلى الشعب العراقي قائلاً: »الحمد لله على ما كتبه لنا سبحانه أن شرَّفنا باستشهادهم في سبيله… إن النفس والمال فداء في سبيل الله وفداء للعراق ولأمتنا بعد أن افتدينا هذه العناوين والمعاني بالولد، ولو كان لصدام حسين مائة من الأولاد غير عدي وقصي لقدمهم صدام حسين على نفس الطريق «. ]راجع في ملاحق الكتاب رسالة صدام حسين بتاريخ 25/ 7/ 2003م[.

الخميس 17 ربيع الاول 1425 / 6 آيار 2004