الجمعة، أيلول ٢٩، ٢٠٠٦

كتاب المقاومة الوطنية العراقية 5

بقلم : حسن خليل غريب
الفصل الرابع

موقع الفكر المقاوم في استراتيجية حزب البعث


إذا كانت المقاومة الشعبية المسلحة تختصر مساحة الفراغ بين النصر والهزيمة، فإلى أي مدى أسهمت تجربة المقاومة الشعبية العراقية –الآن- التي يطبقها حزب البعث العربي الاشتراكي مع روافده من التنظيمات الأخرى، في اختصار المسافة بين النصر الأميركي العسكري، وانسحاب القوى النظامية العراقية من حرب المواقع ؟

يستند الحزب في استراتيجيته للتحرير إلى منظور حرب التحرير الشعبية، وقد وضع في منطلقاته الأولى مهمة التحرير من الاستعمار والصهيونية هدفاً أساسياً لن تتحقق شعاراته في الوحدة العربية والاشتراكية إلا بتحرير أقطار الأمة العربية من هيمنة تلك القوى العسكرية والاقتصادية.

قال مؤسس الحزب، في معرض موقفه من الصراع العربي الصهيوني –قبل معارك العام 1948م- في فلسطين:»لا تنتظرنَّ المعجزة، إن فلسطين لن تحررها الحكومات، بل العمل الشعبي المسلَّح«([1])، وقال –أيضاً- »أمتي موجودة حيث يحمل أبناؤها السلاح«. ومارس الحزب أسلوب العمل الشعبي المسلَّح –تطبيقاً لنظريته- في عدة من المحطات التاريخية، وكان من أهمها:

-مشاركة قيادة الحزب(])، وقواعده، في حرب فلسطين من العام 1948م، وللحزب شهداء سقطوا في أثناء مواجهة العدوان الصهيوني في تلك المرحلة([2]).

قامت تلك المشاركة على أساس أن الحزب لا يثق بقدرة الأنظمة على تحرير فلسطين. ولهذا أسهم الحزب في النضالات التالية:

منذ الستينات، وبعد أن انطلقت أول ثورة فلسطينية مسلحة، بتاريخ 1/ 1/ 1965م، كان لحزب البعث دور الريادة في احتضان تلك الثورة ومساعدتها بالإعلام والتبرعات والانخراط في صفوفها([3]). كما أصدر الحزب عدة بيانات تأييد وتبشير بالعمل الفدائي، وكانت مواقفه تتلخص بما يلي:

- عجز الأنظمة عن استرداد فلسطين. فالكفاح الشعبي المسلح هو الطريق الرئيس لاستردادها.

- إنتقاد من يدَّعون الحرص على فلسطين، والذين لا يجرؤن على الإشارة إلى مجهود »العاصفة«.

- النضال الفلسطيني هو على أرض فلسطين وليس في المؤتمرات. ويُعدُّ عمل »العاصفة« وأسلوبها في الكفاح المسلح هو ما يجب على العرب أن يأخذوا به([4]).

رأى الحزب الجوانب الإيجابية في المقاومة، ومن أهم تلك الإيجابيات هي منازلتها للاستعمار والصهيونية في الساحة العربية المركزية التي هي فلسطين المحتلة، وبأسلوب الكفاح المسلح. وبذلك غدت هوية المقاومة الفلسطينية هوية قومية »تطل بها الثورة العربية على العالم كخلاصة للقضية العربية في صراعها مع الاستعمار والصهيونية«([5]). ولما بدا أن الثورة الفتية تستند إلى منطلقات قطرية، وخوفاً من أن تتقوقع في داخل الأسوار القطرية الفلسطينية، أسهم الحزب في تأسيس فصيل قومي، في مطلع نيسان / أبريل من العام 1969م، وأطلق عليه اسم جبهة التحرير العربية. والتي حددت منطلقاتها القومية، المستندة إلى عمق فكري، وفيها عبَّرت عن الترابط الوثيق بين النضال المسلَّح من أجل فلسطين والنضال الجماهيري العربي من أجل الوحدة والتحرر والنهضة الحضارية، وقد نصَّت مقدمة بيانها التأسيسي على أن: »فلسطين طريق الوحدة والوحدة طريق فلسطين«([6]).

واستناداً إلى أن الحزب حمل »أمانة تاريخية، هي أمانة النهوض بالأمة وتحقيق وحدتها وتحرير أرضها المغتصبَة«([7])، وللدلالة على قومية المعركة استندت جبهة التحرير العربية في هيكلة تنظيمها ليس على الشباب الفلسطيني فحسب وإنما على شباب حزب البعث العربي الاشتراكي بتنظيماته القومية أيضاً، ومن المعروف أن تنظيمات الحزب منتشرة في معظم الأقطار العربية. وكان نشاط الجبهة بارزاً في أحداث الأردن (1970 - 1971)، وكذلك في صد الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان. وكان من أهم مهمات الجبهة أن لا تكون بديلاً لأحد، ولكن أن تعمل جاهدة في رص صفوف فصائل المقاومة الفلسطينية([8]).

بالعودة إلى أرشيف جبهة التحرير العربية تؤكد أنها قامت بواجبها في قتال العدو الصهيوني منذ إعلان تأسيسها. وأعلنت في مبادئها أنها »ذات طابع جبهوي وتركيب قومي عربي وفكر ثوري تقدمي«. وقد نفذَّ مقاتلو الجبهة في داخل الأرض الفلسطينية المحتلة عدداً من العمليات الفدائية الانتحارية، كمثل عملية كفار يوفال، وكفار جلعادي، ومسكاف عام. وكان التركيب التنظيمي للجبهة تركيباً قومياً، بحيث ضمت قيادتها مناضلين عرب من أقطار عربية عدة، وكذلك كان وضع المنتسبين إلى صفوفها([9]).

وعلى مسار آخر، كانت لحزب البعث في لبنان، منذ العام 1969م، تجربة موازية لتجربته في تأسيس جبهة التحرير العربية، وهي البدء بإعداد البعثيين بتدريبهم على استعمال السلاح لبناء أول تجربة للمقاومة الشعبية في جنوب لبنان، وكان نموذجها بناء قوى شعبية مقاتلة في القرى المحاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة. وهكذا استدعت التجربة عدة سنوات، كان من أهم نماذجها تجربتيْ الطيبة وكفركلا، وفيهما حصلت عدة مواجهات بين جيش العدو الصهيوني وبين المقاتلين البعثيين. وقد أقلقت تلك التجربة قيادة جيش العدو، وقد عمل على إحباطها، ولهذا السبب شنَّت قوات من الكومندوس الصهيوني، في العام 1975م، عدة هجمات على القريتين، وسقط نتيجة المواجهة عدد من الشهداء البعثيين([10]).

وللتدليل على أهمية تلك التجربة، صرَّح السيد موسى الصدر، في العام 1976م، بعد أن انكشف قيام »أفواج المقاومة اللبنانية« التي يقودها، قائلاً: إنني أريد أن أبني تجربة في جنوب لبنان كمثل تجربة كفركلا والطيبة([11]).

وبمثل تلك الشواهد التاريخية، قارب حزب البعث العربي الاشتراكي بين رؤيته النظرية للنضال في سبيل القضية الفلسطينية وتجاربه العملية. وحمل أعضاء الحزب في لبنان السلاح، منذ العام 1975م، للدفاع عن الثورة الفلسطينية.

وتابع البعثيون دورهم في المقاومة، إلى جانب قوى وتشكيلات الحركة الوطنية اللبنانية، بعد احتلال العدو الصهيوني منطقة جنوبي الليطاني في العام 1978م. وهذا ما مارسوه، بعد احتلال جزء كبير من الأراضي اللبنانية من قبل القوات الصهيونية في العام 1982م، إلى جانب مجاميع القوى الوطنية، ونفَّذ مئات العمليات ضد القوات الصهيونية المحتلة وسقط له في مواجهتها عشرات الشهداء. وكان يمارس الحزب دوره تحت اسم »المقاومة الوطنية اللبنانية – قوات التحرير«.

واستناداً إلى كل ذلك، فقد أثبت حزب البعث دوره في نشر فكر المقاومة والترويج له، ومارس هذا الدور في شتى معارك المواجهة ضد القوات الصهيونية في فلسطين والأردن ولبنان.

أما علاقة منظمة الحزب في العراق، فهي علاقة مسيرة مستمرة في العمل المقاوم، فالعراقيون، وعلى رأسهم البعثيون، أسهموا في شتى جبهات المقاومة ضد العدو الصهيوني في لبنان وفلسطين والأردن، هذا بالإضافة إلى الإمكانيات المالية والتسليحية والسياسية التي كان نظام الحزب في العراق يقدمها للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.

وتدليلاً على إيمانه وقناعته بالدور الفعال للمقاومة، كان العراق –حتى في ظل الحصار الذي فرض من حوله، منذ العام 1991م- يقدم مساعدات نقدية فورية إلى صاحب البيت الفلسطيني الذي يتعرض للهدم، ولأسر الشهداء أيضاً، ومساعدة تفوقهما لكل من ينفذ عملية استشهادية(V). هذا السبب هو من بين عدة من الأسباب التي زادت حقد الصهيونية ضد النظام السياسي في العراق.

استناداً إلى كل ما سبق، ما هو موقع الفكر المقاوم في استراتيجية منظمة الحزب في العراق عندما تأكدت نوايا الأمريكيين في غزو العراق ؟

بداية لا بُدَّ من أن نقف أمام مسألة قد لا يدركها آخرون، أو أنها لا تلفت انتباههم، وهي أن حزب البعث ليس حزباً للسلطة، بل هو حزب الثورة والتغيير نحو الأفضل، والسلطة هي إحدى وسائله النضالية لتحقيق أهدافه في الوحدة العربية والحرية والاشتراكية؛ تلك الأهداف التي تُخرِج الأمة العربية من حالة السيطرة الاستعمارية والتخلف إلى الاستقلال والحرية، ليكون للأمة دورها الإنساني جنباً إلى جنب مع الأمم الحرَّة، وليس تابعاً لقوى الاستعمار العالمي. فوجود الحزب متعلق بوجود الثورة لتحقيق أهدافه، وليس مرتهناً للسلطة. فلتغب السلطة إذا اقتضى الأمر؛ ولكن الأساس أن يستمر الحزب والثورة ضد التبعية للأجنبي والتخلف والتشرذم. واستناداً إلى تلك القاعدة الفكرية الاستراتيجية كان السيناريو الذي وضعته قيادة الحزب في العراق – والذي تأكَّدت حقيقته من خلال الكثير من تفاصيل ووقائع العمليات الفدائية التي يقودها- في سبيل مواجهة مع أحدث قوة عسكرية في العالم المعاصر.

وتأكيداً على إيمانه بجدوى المقاومة الشعبية المسلَّحة وممارسته لها وتخطيطه لعملها، فقد أعدَّ صدام حسين الأمين العام لحزب البعث نفسه للشهادة([12])، كما أعدَّ أولاده وأحفاده لمواجهة مثل هذا الاحتمال، وقد برهنوا على إيمانهم بالفعل([13]).

حسن خليل غريب

لبــنان في أيلول / سبتمبر 2003م


--------------------------------------------------------------------------------

([1]) ميشيل عفلق: الكتابات الكاملة (ج 1): دار الحرية للطباعة: بغداد: 1987م: ص 202.

] شارك ميشيل عفلق، الأمين العام للحزب، وصلاح الدين البيطار عضو القيادة القومية، في المعارك التي دارت على أرض فلسطين، في العام 1948م.

([2]) من شهداء البعث الذين سقطوا في فلسطين: مأمون البيطار، محمد جديد، فتحي الأتاسي، ومحمد صقال. راجع نضال البعث (ج1) : دار الطليعة: بيروت: 1976: ط2: ص 244.

([3]) راجع نضال البعث (ج 11) : دار الطليعة: بيروت: 1976: ط2: صص 11 و182 – 184.

([4]) م. ن: ص ص 182- 184.

([5]) ميشيل عفلق: الكتابات الكاملة (ج 3): دار الحرية للطباعة: بغداد: 1987م: ص 134.

([6]) الكيالي: موسوعة السياسة (2): المؤسسة العربية للدراسات: بيروت: 1981: ط1: ص 33.

([7]) ميشيل عفلق: الكتابات الكاملة (ج 3): م. س: ص 136. تاريخ 7/ 4/ 1977م.

([8]) الكيالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة (2): م. س: ص 33.

([9]) الكيالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة (2): م. س: ص 33.

([10]) سقط، في أول هجوم صهيوني على قرية الطيبة في 1/ 1/ 1975م، ثلاثة شهداء للحزب، وهم: علي وعبد الله وفلاح شرف الدين. أما في كفركلا، التي تعرضت لهجومين صهيونيين في تموز / يوليو و27/ 11/ 1975م، فقد سقط عضو قيادة منطقة الجنوب للحزب، شهيداً في المعركة الأخيرة، وهو الشهيد عبد الأمير حلاوي.

([11]) حسين شرف الدين: الإمام السيد موسى الصدر: دار الأرقم: بيروت: 1996م: ص 140.

V أشار ديك تشيني –نائب الرئيس الأميركي- في آخر خطاب له، إلى أن من مبررات الحرب على العراق هو عداء النظام السياسي في العراق لأميركا من جانب، وتقديم القيادة العراقية مبلغ (25,000 $) إلى عائلة كل شهيد فلسطيني.

([12]) يقول في مقابلة تلفزيونية معه إن من مقتضيات شرف المسؤولية أن يدافع، الذي يتعرض للعدوان، عن بلده وأطفاله وشعبه. وأن يكون مستعداً من أجل الشهادة في سبيلهم. ] راجع نص المقابلة التلفزيونية، التي أجرتها مراسلة شبكة (سي بي إس) الأميركية، مع صدام حسين في أوائل شهر آذار / مارس من العام 2003م. [.

([13]) بتاريخ 22/ 7/ 2003م، وفي معركة شرسة دامت ثلاث ساعات واجه عدي وقصي نجلا صدام حسين وحفيده مصطفى البالغ من العمر أربعة عشرة سنة، أكثر من مئتي جندي معززين بالدبابات والطائرات ، ولم يستسلموا بل قاتلوا ببسالة وقتلوا عدداً من جنود قوات الاحتلال، واستشهدوا. وقد نعاهم والدهم برسالة وجهها إلى الشعب العراقي قائلاً: »الحمد لله على ما كتبه لنا سبحانه أن شرَّفنا باستشهادهم في سبيله… إن النفس والمال فداء في سبيل الله وفداء للعراق ولأمتنا بعد أن افتدينا هذه العناوين والمعاني بالولد، ولو كان لصدام حسين مائة من الأولاد غير عدي وقصي لقدمهم صدام حسين على نفس الطريق «. ]راجع في ملاحق الكتاب رسالة صدام حسين بتاريخ 25/ 7/ 2003م[.

الخميس 17 ربيع الاول 1425 / 6 آيار 2004