السبت، أيلول ٣٠، ٢٠٠٦

كتاب المقاومة الوطنية العراقية 2

بقلم : حسن خليل غريب

الفصل الأول
مقدمات فكرية حول مفاهيم النصر والهزيمة

تمهيــد
في كل صراع طرفان، ولكل طرف أهداف يحسب أنها مشروعة، فيقوم بالهجوم لتحصيلها من سالبها، أو بالدفاع لمنع سلبها من قوة أخرى. ويتم الصراع، عادة، بين الطرفين بوسائل عديدة، منها الصراع الإيديولوجي والفكري والسياسي، ومن أهمها التصادم العسكري الذي يعد له الطرفان كل الإمكانيات المادية، وتشمل الرجال والآلة والمال؛ وهي تشكِّل، عادة، عنصراً أساسياً في تحديد اتجاهات الصراع الميدانية.
ولأن الحرب العسكرية هي أحد وجوه الصراع بجوانبه السياسية والإيديولوجية والفكرية والثقافية، فإن نتائجها لن تكون حاسمة إلاَّ إذا أحدثت تغييراً في الاتجاهات السياسية والفكرية والإيديولوجية للخصم الخاسر عسكرياً. لذلك على الفريق الضعيف –في حسابات الموازين المادية- أن يضع قوَّة حقه عاملاً من عوامل تعديل موازين القوى في الصراع. وهذا ما لا يجعله يفرِّط به، ويحفِّزه إلى الدفاع عنه بشتى الوسائل والسبل.
وهنا، يمكننا أن نطرح التساؤل التالي: هل يمكن أن نطلق على كل من يتمسك بحقه، ويصر على الدفاع عنه، على الرغم من معرفته المسبقة بنتائج الصراع العسكري النظامي، بالرومانسية أو السوريالية؟
وهل يجوز –تحت حجة الواقعية- أن ندعو كل الضعفاء، بالموازين العسكرية النظامية، إلى التنازل عن حقوقهم الوطنية؟
إن مثل تلك الدعوات تخالف أدنى الحقوق في حماية القيم الإنسانية والدفاع عنها. ولهذا يكون السكوت عن مظالم يلحقها الآخر القوي، مادياً، بالضعيف الذي يتسلَّح بقوة حقه، منافٍ للقيم الإنسانية، فكيف بالأحرى يكون موقفنا ممن يتنازل عن حقه تحت ذريعة ضعف مقدرته العسكرية، وخوفاً من قوة الخصم؟
لا بُدَّ، في حساب موازين الصراعات بين الأقوياء والضعفاء، من أن نحسب أن قوة الحق هي من القيم الإنسانية التي لا يمكن إغفالها من موازين القوى، بل هي من الموازين القيمية الإنسانية التي تحصِّن صاحب الحق كي لا يتنازل عن حقه. وهي التي تلعب دوراً أساسياً في تحديد مفاهيم النصر والهزيمة.
ولأننا أمة تواجه سلسلة من الصراع المستمر مع قوى الاستعمار الخارجي،
ولأن تلك المفاهيم تلعب دوراً مهماً في التأثير على مضمون خطابنا السياسي وبنية مجتمعاتنا الثقافية والفكرية،
ولأن لتلك البنى تأثيراً في ترسيم حركة مجتمعاتنا النضالية، ولأن مفاهيم النصر والهزيمة، التي يستند إليها خطابنا السياسي أصبحت قاصرة عن تجديده بما يتناسب مع معارك الدفاع عن حقوقنا، وبما يتناسب مع تجارب الأمة النضالية،
بات من الواجب علينا أن نسهم في صياغة مفاهيم جديدة للنصر والهزيمة.
بداية، نرى أن من علامات النصر أن يرغم القوي خصمه على الاعتراف له بمشروعية أهدافه. فإذا أرغم خصمٌ خصمَه، على الاستسلام من دون الاعتراف له بمشروعية أهدافه- يبقى النصر مبتوراً. فكيف إذا كان الاستسلام لم يتم أصلاً؟
استناداً إلى ذلك، عندما يعجز الضعيف في الدفاع عن حقوقه، لغياب التكافؤ بموازين العوامل المادية، ولكنه يرفض التنازل عنها، ويصر على استعادتها بشتى وسائل الممانعة المتاحة، يعني أن النصر لم يكتمل للخصم المنتصر، والهزيمة العسكرية تبقى ناقصة الشروط بالنسبة للطرف المهزوم. أما البراهين على ذلك، فكثيرة، ومنها الأمثلة التالية:
ربحت الصهيونية، عسكرياً، على الشعب الفلسطيني –منذ بداية تأسيس كيانها على أرض فلسطين- وعملت جاهدة على انتزاع اعتراف الشعب الفلسطيني بمشروعية كيانها. لكن هذا الشعب، على الرغم من خسارته معاركه العسكرية التي تمظهرت في أكثر من منازلة أو معركة، لم يعترف للصهيونية بمشروعية أهدافها. ولما كانت قيم الوطنية والسيادة على الأرض والحق بالعيش المستقل هي من القيم التي تمثل حقوق الشعب الفلسطيني من جهة، ولما كان الاغتصاب هو الوسيلة التي استخدمتها الصهيونية من جهة أخرى؛ أعطت قوة الحق، التي يمتلكها الشعب الفلسطيني في مواجهة وسائل الاغتصاب، شحنة من الإيمان للنضال من أجل استعادة الحق المسلوب. فأضافت تلك الشحنة، إلى موازين القوى، عاملاً دفعه إلى رفض التنازل عن الحقوق والقيم، فانخرط بسلسلة من وسائل المقاومة الفكرية والسياسية والعسكرية ضد العدو الصهيوني. ولما لم يتوقَّف الصراع، حتى الآن، بل هو قائم ومتجدد –منذ أكثر من خمسين عاماً- نجد ما يدفعنا إلى القول بأنه لهذا السبب وحده، نحسب أن الصهيونية لم تسجل نصراً كاملاً، بل إن الشعب الفلسطيني لم ينهزم أيضاً.
وكمثال آخر، انتصرت الصهيونية، عسكرياً، في حرب العام 1967م، على الجبهة المصرية؛ واستثمرت نصرها في سبيل إرغام مصر على الاعتراف لها بحق اغتصاب الأرض العربية؛ لكن مصر امتنعت عن الاستجابة للإرغام الصهيوني، ومارست حرب الاستنزاف المشهورة. فمصر تكون بذلك قد انهزمت بالمفهوم العسكري النظامي، لكنها بامتناعها عن التنازل عن الحقوق، خاصة بعد أن ابتدأت حرب الاستنزاف ضد العدو على قناة السويس، كوجه من وجوه المقاومة، تكون قد جرَّدت النصر الصهيوني العسكري من اكتمال شروط تحققه، وتكون –بما أقدمت عليه- قد جرَّدت الهزيمة المصرية من بعض شروط اكتمالها.
أما في العام 1973م، فقد حققت القوات المصرية نصراً عسكرياً –ولو كان غير كامل- على القوات الصهيونية، وكان عليها لكي تسجِّل نصراً كاملاً أن تمنع الصهيونية من تثبيت ما سرقته من حقوق عربية. لكن، على الرغم من تحقيق النصر العسكري المصري، دخلت الحكومة المصرية في سلسلة من المفاوضات كان من نتائجها الاعتراف بشرعية الاغتصاب الصهيوني للأرض الفلسطينية، فتكون بذلك قد ألغت نتائج حرب العام 1973م، وجرَّدتها من شروط الانتصار، وحوَّلت نتائجها إلى هزيمة عندما تنازلت للعدو عن الحقوق الوطنية والقومية؛ علماً أن مصر –التي أشرفت على إدارة قطاع غزة بعد حرب العام 1967م- ليس لها الحق، بموجب الواجب القومي نحو القضية الفلسطينية وموجب المستلزمات القانونية، أن توقِّع اتفاق سلام مع الصهيونية دون ضمان حقوق الشعب الفلسطيني.
ولما كان الهدف الصهيوني، من استخدام وسائل القوة، الحصول على تنازلات من الفلسطينيين والمصريين، في العام 1967م، ولما لم تحقق الصهيونية تلك الأهداف، فإنها لم تسجل نصراً كاملاً. ولما امتنع الفلسطينيون والمصريون عن تقديم تلك التنازلات يكونون كمن جعلوا الهزيمة غير كاملة.
لكن لما اعترفت مصر بمشروعية الأهداف الصهيونية –على الرغم من النصر العسكري المصري في العام 1973م- تكون، على قاعدة ذلك الاعتراف، قد ألغت انتصارها العسكري وسجَّلت هزيمة فكرية وإيديولوجية، وهزيمة قيمية إنسانية.
ليست، إذاً، نتائج العمليات العسكرية النظامية هي التي تحدد مفاهيم النصر والهزيمة، بل الرضوخ والتنازل عن الحقوق أو رفض التنازل عنها هي التي تحددها.
استناداً إلى ذلك، نرى أنه لا بُدَّ، أمام حركة الفكر العربي، من نقد تلك المفاهيم، كخطوة على طريق صياغتها من جديد على ضوء التجارب النضالية للحركة الثورية العربية. ولهذا سنعمل على الإسهام في تلك المهمة.

أولاً : المفاهيم التقليدية للنصر والهزيمة قاصرة عن التعبير عن تجارب الأمة النضالية :
وكأن القوى الخارجية المعادية للأمة قد أسرت بنيتنا الثقافية في دائرة الحرب النظامية؛ فتناسينا، في خطابنا الفكري والثقافي والسياسي، أن في حياة الأمة مجموعة من التجارب / الدروس النضالية، تبتدئ من تجربة الجزائر، وتمر بتجربتيْ المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وتنتهي –في هذه المرحلة- بتجربة العراق.
بين المسألتين: الحرب النظامية، وحرب التحرير الشعبية، مسافة دفعت ببنيتنا الفكرية إلى نقد الأنظمة من دون أن نولي اهتماماً لدور الشعوب، التي أثبتت التجارب القومية والعالمية دورها المؤثر في حركات التحرير.
فبمثل الآليات النقدية الفكرية والثقافية السابقة تحوَّلت بنية المجتمع العربي الثقافية إلى بنية مهزومة، وانطبعت حركة العرب الثقافية –منذ هزيمة الأنظمة العربية في حرب فلسطين في العام 1948م- بأدب وفكر الهزيمة. فأصبح من السائد كأن العرب لم يعرفوا النصر بل هم من الشعوب التي لا تعرف إلاَّ الهزائم.
انعكس المناخ الفكري والثقافي والشعبي -حول ما يحلو للبعض أن يصفه بهزيمة النظام العراقي في الحرب الأخيرة- على تقييم الخطاب الفكري والسياسي والثقافي لما حصل في العراق، منذ التاسع من نيسان من العام 2003م.
لقد نال الحدث الغامض الذي أحاط باحتلال بغداد قبل أن يحين الموعد العملي لسقوطها –كما كان يحسب معظم المراقبين- كل الاهتمام عند أكثر الأوساط الحزبية والشعبية والرسمية، وكأن ذلك شكَّل حسماً للمعركة، وُضعت فيها تيجان النصر على هامات الأميركيين، ونال العرب –هذه المرة- هزيمة أخرى في العراق.
في تلك المرحلة حسب معظم المتابعين للحدث أن رايات النصر والهزيمة –التي وزعها جورج بوش- كانت النتائج النهائية للحرب التي دارت رحاها على أرض القطر العراقي. ولكن لما تواترت الأنباء -بعد أقل من أسبوعين من احتلال بغداد- عن قيام عمليات عسكرية –على قاعدة حرب العصابات- تقوم بها مجموعات عسكرية عراقية، انشدَّت أنظار الجميع –من جديد وبشيء من الاعجاب- باتجاه الفعل العراقي المقاوم ضد قوات الاحتلال الأميركي – البريطاني. وأدرك المراقبون أن ما أعلنه جورج بوش لم يكن يعبِّر عن الواقع، لأن ظهور المقاومة الشعبية يشكل استمراراً لتلك الحرب، ولكن بوسائل غير نظامية.
هنا نتساءل كيف حصل هذا التغيير في الأحكام بمثل تلك السرعة؟
بسرعة تغيير الأحكام، تساوت الجماهير الشعبية، والمنظمات الحزبية والثقافية والفكرية. وليس هذا التساوي مما يمكن أن نهمله، بل من الواجب أن نفتِّش عن تفسير له.
إن السرعة في تغيير الأحكام من ظاهرة واحدة، يتم بين ليلة وضحاها، ليس إلاَّ مستوى من المزاج والأحكام المزاجية، وهي من انعكاسات منهج التفكير الذي يشكل خصوصية في العقل العربي الراهن. هذا العقل الذي لم يرتق، أو لم تستطع المؤسسات الفكرية أن ترتقي به إلى المستوى الناضج الواعي والموضوعي. وتتمظهر حالات القصور في سرعة تغيير الأحكام حول حدث محدد، كمثل ما حصل من تغيير في الأحكام بعد احتلال بغداد. بحيث تحوَّلت الأحكام من الاستغراب والاستهجان والسخط أحياناً حول نتائج ما سُمِّي –في وقته- بالهزيمة العراقية، إلى الاعجاب والتشجيع بعد تمظهر المقاومة العراقية –على قاعدة حرب العصابات- أما السبب في مثل ذلك التغيير السريع فيعود إلى عامل المزاج –الذي أسهمت في تكوينه آليات التفكير التقليدي لمفاهيم النصر والهزيمة، ولم يأخذ بعين الاعتبار عامل التحليل العقلي، الذي من الواجب أن يستند إلى آليات جديدة مُستَخلَصة من تجارب السنوات الخمسين التي تفصلنا عن حرب فلسطين في العام 1948م.
ونرى أن الخروج من مزاجية الأحكام، المبنية على آليات الخطاب الفكري الثقافي السياسي التقليدي، يتم من خلال وضع مفاهيم جديدة، تأخذ بالاعتبار قيم الحق في الدفاع عن الأرض الوطنية بشتى السُبُل المتاحة، ومنها وسائل الكفاح الشعبي المسلَح، وقيم الممانعة في التنازل عن تلك الحقوق، مهما كانت الضغوط العسكرية النظامية للقوى المعادية، كما الممانعة في الاعتراف للدول الغاصبة بمشروعية أهدافها مهما بلغ الثمن من النضالات والتضحيات.
ثانياً : إسهام في تعريف جديد لمفاهيم النصر والهزيمة
حان الوقت لأن ترتقي الحركات الحزبية والثقافية والفكرية من مستوى المزاج إلى المستوى الفكري الاستراتيجي. ونُعيد أسباب المساواة، في إطلاق الأحكام بين الشعبي والثقافي والفكري، إلى تقصير في المفاهيم الفكرية العامة، أو المفاهيم الفكرية السياسية الخاصة، التي نستعين بها في إطلاق الأحكام على الظواهر. وتتحمَّل الحركة الفكرية العربية مسؤولية القصور، لأنها لم تجهد نفسها من أجل إعادة النظر في المفاهيم الفكرية والثقافية والسياسية ذات العلاقة بحركة النضال القومي العربي، فانعكس القصور سلباً على الواقع الثقافي العربي بشكل عام، وعلى ثقافة الجماهير الشعبية بشكل خاص.
على الرغم من التجارب المهمة التي حصلت على الصعيد القومي، التي تتمظهر بوسائل الكفاح الشعبي المسلَّح، والنتائج الإيجابية التي حصلت عليها بعض الأقطار العربية، ظلَّ الفكر العربي المعاصر مأسوراً في داخل مفاهيم تقليدية تحصر وسائل الصراع بين الأمة وأعدائها في موازين القوى العسكرية التقليدية، والاقتصار على نتائجها في صياغة مفاهيم النصر والهزيمة. ولم يرتق إلى دراسة عوامل الكفاح الشعبي المسلَّح، كعوامل أثبتت جدارتها في حساب موازين القوى.
نحسب، هنا، أنه لو قامت الحركة النقدية الفكرية العربية بالنظر إلى تلك المفاهيم، برؤى جديدة تتناسب مع تجربة الشعب العربي النضالية، فسوف تعمَّقها في الثقافة العربية الشعبية، وتنقل الأحكام –حول النصر والهزيمة- من مستوى المزاجية إلى مستوى الأحكام الواعية والموضوعية؛ وبذلك، تنتقل بالثقافة العربية من الإيمان بثوابت جائرة تحمِّل العرب وزر هزيمة دائمة لم تحصل، ومن تحميلها وزر الاعتراف للقوى المعادية بنصر لم يكتمل.
لهذا السبب سنحاول –من خلال هذه الدراسة- القيام بإسهام للتجديد في مفاهيم النصر والهزيمة، وبناءً عليه، سننتقل إلى دراسة مرحلة ما بعد الإعلان الأميركي عن انتهاء الحرب في العراق في أول شهر أيار / مايو من العام 2003م.
ليس من المستغرَب أن تعلن قوى الاحتلال، وتلك التي تستند في تقييماتها إلى مكاييلها الخاصة التي لا تستقيم مع قيم الثورة، أنها انتصرت، وألحقت هزيمة بالعراق. ولكن المستَغرَب أن يتبنى الخطاب العربي الناقد، سواء الصادق منه أو المتلوِّن، منطق إعلان الهزيمة.
لم تكن الهزيمة وصفاً يطول تجربة الصراع العراقي – الأميركي، فحسب، بل إن الحديث عنها –أيضاً- أصبح حقيقة فكرية سياسية تستخدمها كل تيارات حركة التحرر العربية في وصف نتائج كل الصراعات السابقة بين الأمة العربية وأعدائها. وأصبح أدب الهزيمة سمة من سمات الخطاب العربي. وأصبح الترويج له، سواء كان صادراً عن سلامة الطوية أو سوئها، يسهم بشكل غير مباشر في تأسيس حالة انهزام نفسية تنعكس آثارها على ثقافة الجماهير الشعبية. فتكون تيارات حركة التحرر العربية -بتثبيتها لمثل ذلك الخطاب- كمن تضع في مواجهة نضالاتها الكثير من العوائق ومن أهمها زرع روح الانهزام واليأس في نفوس الجماهير التي تشكل المعين الرئيس في رفدها بالبُنى البشرية الأساسية.
وحيث إن تيارات حركة التحرر العربية لم تعلن يأسها، وهي بحاجة إلى المعين الجماهيري لمتابعة النضال، وحيث إن الجماهير اليائسة لن تناضل، فعلى تيارات حركة التحرر العربية أن تحافظ على وسط جماهيري يتمتع بحد أدنى من المعنويات. ومن أجل تلك الغاية نرى أن عليها أن لا تزرع منطق الهزيمة النفسية من خلال خطابها السياسي والفكري الذي اعتادت على ممارسته نقداً لتجاربها الخاصة أو تجارب الآخرين.
تدفعنا تلك الرؤية إلى تفسير السبب الذي يسوِّغها. ويسوَّغ الموقف الذي يرفض الترويج للهزيمة وأدبها، وتغيير مفاهيمها كمصطلح سياسي. وبناء عليه إلى ماذا نستند في اتخاذ هذا الموقف، وكيف نعمل من أجل التأسيس لمفاهيم جديدة؟
لا شك في أن تأسيسنا لمفهوم جديد لمعاني النصر والهزيمة سوف يثير استغراب الأكثرية من حركة الناقدين لشتى تجارب الأمة العربية. خاصة أن الخطاب السياسي والفكري المرحلي، انتهج خطاً مسكوناً بهاجس الهزيمة. ويتَّسم هذا الخط بمنهجية الإلغاء لكل نتائج التجارب السابقة، السلبي منها والإيجابي،و رفض تفسير الأمور على واقعيتها من دون مبالغة في تسقيط التجارب بالكامل أو في تثبيتها بالكامل.
وهنا نتوجَّه إلى تيارات الحركة الثورية العربية بما يلي: يعتمد الخطاب العربي السائد حدَّيْن لنتائج تصادم القوى العسكرية النظامية:إما هزيمة كاملة أو نصراً كاملاً. وهذا صحيح في المقاييس المادية، إذا انتهى الصراع بالاعتراف بمشروعية أهداف المنتصر أولاً. وثانياً، إذا توقَّفت حركة الصراع، ضده، بكل أشكالها.
وعلى هذا الأساس، إذا كان فقدان التوازن بالقوى العسكرية هو الذي يحدد نتائج الصراع بين خصمين، فعلى القوى التي لا تمتلك ما يوازي قوة خصمها على الصعيد العسكري أن ترضخ لشروطه؛ ويصبح من الجنون أن يقدم الضعيف على الدخول في حرب خاسرة سلفاً. وفي مثل تلك الحالة يبقى الحق للقوة، مما يلغي كل القيم الإنسانية ذات العلاقة بالعدل والمساواة، وقيم احترام إرادة الشعوب في المحافظة على استقلالها وحريتها في بناء الأنظمة السياسية التي تختارها بنفسها….
وإذا أصبح استسلام الضعيف، من دون مقاومة، إلى إرادة القوي قيمة من القيم الإنسانية. يعني كل ذلك أن على الشعوب الضعيفة أن تسلِّم كل مقدراتها إلى من يمتلك وسائل القوة العسكرية،
ولما كانت القوى الكبرى، التي تمتلك الإمكانيات العسكرية، تحول دون أن يمتلك أي شعب من الشعوب من وسائل القوة النظامية، ما يتيح له الدفاع عن نفسه، وبشكل خاص دول العالم الثالث، ويأتي على رأسها دول الوطن العربي،
يعني ذلك أن العرب لن يمتلكوا قوة موازية لقدرات الدول الكبرى، ويعني هذا، أيضاً، أنهم سوف يكونون مهزومين دائماً.
لهذا السبب، نرى أن على تيارات حركة التحرر العربية، إذا ظلَّت آليات تحليلها جامدة من دون تجديد، أن تعلن الهزيمة الدائمة مرة واحدة. وهذا أفضل من أن تعلنها بالتقسيط. كما أنها، في ظل غياب التجديد، تتحوِّل تيارات الحركة الثورية إلى جوقة من الندَّابين تحت ذريعة ممارسة النقد.
والأجدر بتلك التيارات، إذا أصرَّت على منهجها التقليدي في الندب / النقد، أن تعلن تأجيل صراعاتها مع قوى الاستعمار إلى أجل غير مسمى، على أن ترتبط حدوده الزمنية مع المرحلة التي تصل فيها الأنظمة العربية –وهي لن تصل- إلى امتلاك قدرات عسكرية تسمح لها بإحداث توازن في القوى بينها وبين أعدائها.
وحيث إن منطق التأجيل هذا، هو اللامنطق بعينه، نرى أن على حركات التحرر أن تضع في موازين القوى، في الصراع مع الإمبريالية والصهيونية العالمية، حسابات أخرى. ومن تلك الحسابات إدخال عاملين أساسيين وهما :
رفض الشعوب المغلوبة – عسكريا ً- تشريع أهداف العدوان، ورفض التنازل عن الحقوق الوطنية والقومية.
المقاومة الشعبية المسلَّحة ضد الاحتلال عامل أساسي من عوامل تعديل الموازين في القوى .
إن هذين العامليْن، إذا أصبحا من آليات التقييم الجديد في الفكر العربي، يستطيعان أن يردما المسافة الفاصلة بين مفهوميْ النصر والهزيمة.
أما بالنسبة للعامل الأول، فنرى أن ثقافة الدفاع عن القيم القومية والوطنية -كدفاع عن القيم الإنسانية- هو من الأهمية بمكان؛ وهو وحده- القادر على لجم أي جنوح فئوي -ديني أو مذهبي أو عرقي- نحو الغرق في الاستقواء بالخارج. كما أنه يزيل أي التباس بين مفاهيم الحقوق السياسية للمواطن وواجباته في الدفاع عن كيانه الوطني ضد كل أنواع العدوان الخارجي مهما كانت أسبابه ودوافعه.
وتأتي حسابات الدفاع عن القيم الإنسانية (الوطنية والقومية والسيادة على الأرض وعلى القرار ، والتصدي إلى منطق الظلم والاستعباد والاستغلال) في موقع التأثير على بناء الموجبات النضالية والتضحية بالنفس.من أجل الدفاع عنها..
أما حول العامل الثاني، المرتبط ارتباطاً وثيقاً مع العامل الأول، فتتم ترجمته من خلال أسلوب المقاومة الشعبية، ومن أهمها المقاومة الشعبية المسلَّحة الطويلة الأمد. و على الرغم من أن التقليديين من المثقفين الليبراليين يصفون هذا الأسلوب من النضال بالسوريالية، إلاَّ أن المقاومة الشعبية المسلَّحة –كما أثبتت كل وقائعها التاريخية- تشكل الأسلوب الذي يسهم في تعديل موازين القوى المادية العسكرية في الصراع بين الشعوب التي تنشد التحرر من الاحتلال الأجنبي وبين القوى المعادية الأجنبية.
وتدليلاً على أهمية حرب التحرير الشعبية، كأسلوب وحيد متاح لاستعادة التوازن -في ظل غياب التوازن العسكري النظامي- جاء في تقرير لوفد الكونغرس الأميركي إلى العراق ما يؤكد تأثير هذا الأسلوب وأهميته في إعادة التوازن في القوى بين القوة العسكرية لدولة تمتلك قوة عسكرية هائلة، وبين قوة لا تمتلك جزءاً يسيراً منها، ما يلي: »إن المدة التي سبقت سقوط صدام، وحتى يوم سقوطه كانت تمثل عملاً عسكرياً رائعاً من القوات الأمريكية ضد القوات العراقية، وإن العسكرية الأمريكية كسبت الحرب باقتدار بارع، ولكن يجب أن نقر ونعترف بأن العسكرية الأمريكية فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق الانتصار على هذا الشعب.«([1]).
استناداً إلى كل ذلك، نقول لكل من يحلو له أن يهلل للنصر الأميركي، أو يعلن سخطه على الهزيمة العراقية، إن المقاومة الشعبية –بشتى أشكالها ووسائلها، ومن أهمها المقاومة الشعبية المسلَّحة- تأتي في قلب العوامل التي على الشعوب التي لا تمتلك وسائل الانتصار العسكري النظامي أن توليها الاهتمام الكافي، ويأتي على رأس من نخاطبهم بعض من المثقفين والنخب من السياسيين المحسوبين على دوائر هذه الوطنية القطرية العربية أو تلك، أومن المحسوبين على القومية العربية.
أن تتمظهر بعض معالم المقاومة الشعبية لقوى الاحتلال –بشكل عام- لهو دليل على الممانعة والرفض، أي دليل على أن تلك القوى لم تتنازل للمحتل عن حقوقها ولم تعترف بمشروعية أهدافه، وتلك الممانعة، تدل على أن المحتل لم يحقق نصراً متكاملاً من جهة، وتدل على أن الشعب الممانع –على الرغم من احتلال أرضه- لم يستسلم إلى منطق الهزيمة من جهة أخرى.
ولهذه الأسباب نرى أن رفض التنازل عن عدد من القيم الوطنية التي يعمل المحتل على انتهاكها، ورفض التعاون مع المحتل هو من القيم الإنسانية. وتكون المقاومة المسلَّحة، التي تعتمد أسلوب حرب العصابات، عاملاً من أهم عوامل الرفض الوطني الذي يجرد العدوان من تحقيق نصر كامل، ويستبعد الهزيمة الكاملة للشعب المقاوم.

حسن خليل غريب
لبــنان في أيلول / سبتمبر 2003م

([1]) نشرت جريدة الأسبوع القاهرية، التي يصدرها مصطفى بكري في مصر، موجزاً لتقرير، كان قد أعدَّه وفد من الكونجرس الأميركي، كان قد قام بزيارة للعراق في النصف الأول من شهر آب/ أغسطس من العام 2003م. وجاء في التقرير مسألة ذات دلالة: بعد أن حاول أحد أعضاء وفد الكونغرس أن يرفع من معنوياته قائلاً: إنكم حققتم نجاحات جيدة جداً باعتقال رموز وقادة النظام العراقي السابق. أجابه، أحد الجنود الأميركيين، بالقول: إذا أردت أن تجعلنا في وضع آمن فلا بد أن تأمروا باعتقال كل أفراد الشعب العراقي، إنهم في محنة، ونحن في محنة أشد، … لأننا نجبرهم على فعل شيء لا يستسيغونه.
الاثنين 14 ربيع الاول 1425 / 3 آيار 2004